قالها دونالد ترامب بوضوح لا يحتمل التأويل: معدلات الجريمة فى مصر منخفضة جدًا مقارنةً بالولايات المتحدة، وهاجم حكام ولاياته لأنهم «لا يعرفون كيف ينجزون عملهم» شهادة وليست مجاملة بروتوكولية تُوجِّه بوصلة الانطباع العالمي: مصر آمنة. وهنا بالضبط تتقدّم الحكاية المصرية من خانة «الانطباع» إلى منطق الصنع والإدارة فالأمن الذى يراه الزائر على الأرض ليس لَقطةً معزولة، بل خلاصة معادلة قاسية: كلفة الأمن والأمان غالية؛ وراءها تضحيات ودماء وتدريبات شاقة واستعدادات احترافية وأدوات عصرية، لم تبخل الدولة على أن تجعل من شرطتها وأدائها نموذجًا، كما لم يبخل أبناء الشرطة على الوطن، وليس أدل على التلاحم بين الشرطة والمواطنين ما رأيناه فى الأمس القريب، حين غاب رجال الشرطة بعد مؤامرة خسيسة، فوقف الجيران معًا لحماية بيوتهم فى أيامٍ صعبة لن تُمحى من الذاكرة، حين يمتدح رئيس أقوى دولة عسكرية فى العالم أداء جهاز الشرطة بدليل انخفاض معدلات الجريمة، ويدعو حكّام ولاياته للتعلّم من التجربة المصرية وتطبيقها، نحن هنا أمام نموذج مُلهم عابر للحدود-قابل للتصدير. لكن قيمة هذه الشهادة تتجاوز حقل الأمن إلى الاقتصاد والثقافة وسمعة الدولة، فقبل أسابيع من افتتاح المتحف المصرى الكبير-أضخم مشروع ثقافى فى الإقليم-تأتى رسالة «مصر آمنة» كحزام ثقة للزوار والمستثمرين، الأمن هنا ليس غايةً بذاته، بل بنية تحتية للفرص: كل يومٍ آمن عند بوابة الجيزة يعنى زيادة فى الحجوزات الفندقية، وكل انطباع إيجابى فى خان الخليلى يُترجَم إلى دورة شراء واستثمار أطول نفسًا ومن خان الخليلى تحديدًا يخرج الدليل الحي: زيارة الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون وتجواله مع الرئيس المصرى فى قلب القاهرة القديمة «على الرصيف لا خلف الزجاج» كانت رسالة مصوَّرة إلى العالم: ليس هناك «كوريدور أمن» معزول للحكام؛ هناك مدينة تسمح لرئيسٍ ضيف أن يمشى بين الناس هذه اللقطة لا تصنعها الكاميرات وحدها؛ تصنعها ثقة متبادلة بين مؤسسات أمن محترفة ومجتمع يعرف معنى النظام فى مدينة كبرى. ومع ذلك، تبقى قوة الرواية فى تحويل الأمن من إجراءٍ إلى سياسةٍ عامة، مصر لم تُراكم حضورها الأمنى عبر زيادة الدوريات فقط، بل عبر توحيد مسارات متوازية: تحديث تشريعات وإجراءات العدالة، تضييق مساحات الاقتصاد غير المنظم التى تغذى الجريمة، استثمارات كثيفة فى البنية التحتية (طرق، إنارة، كاميرات، اتصالات)، وربط ذلك كلّه بإدارة ذكية للمدن والحركة والإسكان بهذه الطريقة يصبح الأمن نتاج تنظيم لا مجرد «قبضة»، ومؤشرًا على جودة الإدارة لا على شدتها. الرسالة التى يلتقطها القارئ الأجنبى من تصريحات ترامب وصور ماكرون ليست أن مصر دولة بلا تحديات-لا توجد دولة كذلك- بل إن مصر تُحسن إدارة المخاطر: تُخفض احتمالات الجريمة، وتُقلص زمن الاستجابة، وتمنع تحوّل الحوادث الفردية إلى انهيارات عامة لذلك يغدو الأمن المصرى أصلًا سياديًا ينعكس على ملفات فائقة الحساسية: تنظيم المؤتمرات الكبرى فى شرم الشيخ، تدفق الرحلات، ثقة شركات التأمين، واستعداد مؤسسات التمويل لتسعير المخاطر على نحو أقل حدّة. قوة اللحظة ليست فى شهادة ترامب وحدها، بل فى تزامن ثلاث إشارات على خط واحد: إشادة علنية من زعيم دولة كبرى، مشهد رئيسٍ أوروبى يتجوّل بلا فزع فى قلب القاهرة التاريخية، وعدّ تنازلى لافتتاح معلم ثقافى عالمى هذا التزامن لا يحدث صدفة، إنه حصيلة سياسة ضبط الإيقاع التى تتبعها القاهرة: تهدئة إقليمية تُدار من شرم الشيخ، بيئة داخلية منضبطة تحمى الحياة اليومية، ورؤية اقتصادية- ثقافية تُحوّل الأمان إلى قيمة مضافة. قد يقول قائل: الأمن مكلف. نعم؛ لكنه أغلى حين يغيب، كلفة غيابه تُدفع من سمعة السياحة، ومن شهية الاستثمار، ومن أعصاب المجتمع نفسه، ومع أن النقد مشروع—وسيظل—إلا أن اختبار الشارع هو الحكم: هل تستطيع أن تفتح محلك فى موعده؟ أن تمشى ليلًا بلا خوف؟ أن تستقبل وفودًا بالمئات على شاطئ واحد فى مؤتمر عالمي؟ الإجابة اليوم تميل لصالح القاهرة، وهذا ما التقطته العواصم. الأمن المصرى اليوم ليس خبرًا محليًا، بل رواية عابرة للحدود، لبلد أعاد ترتيب أولوياته، فبدأت بقية القطاعات تتنفس. وحين يفتح المتحف الكبير أبوابه، ستكون الجملة التى تُقال فى البهو الكبير أمام رمسيس العظيم أكثر صدقًا من أى بيان: هنا تُعرض آثار الحضارة..وهنا أيضًا تُعرض كفاءة الإدارة.