داخل غرفة تغمرها أضواء الأجهزة ولوحات التحكم في أحد مختبرات "برينستون" الأمريكية، تجلس المهندسة المصرية ليلى محسن أمام شاشة تراجع من خلالها بيانات مشروعها العلمى الجديد الذى قد يفتح نافذة جديدة على تكنولوجيا الفضاء وتقول بابتسامة لا تخفى شغفها: »أسعى لإطلاق المركبات الفضائية بلا وقود كيميائى!». من القاهرة إلى شركة شركة برينستون لأنظمة الأقمار الصناعية (Princeton Satellite Systems)، قطعت ليلى رحلة مليئة بالتحدى والإصرار وبخلفيةٍ تجمع بين علوم الحاسب وهندسة الأنظمة الفضائية، أصبحت اليوم من الوجوه الواعدة فى مجال الدفع النووى الفضائى، حيث تسهم فى بناء مستقبلٍ أكثر نظافة وكفاءة للطاقة فى الفضاء. فى مدينة برينستون بولاية نيوجيرسى التى احتضنت عباقرة مثل أينشتاين، تكتب ليلى محسن سطرًا جديدًا فى سجل الإنجازات العلمية للعلماء المصريين بالخارج. وفى هذا الحوار الخاص مع "آخرساعة" تحكى عن رحلتها، وتجربتها فى أبحاث الفضاء، وأحلامها التى تتجاوز حدود الأرض وتحلق إلى ما بعد الغلاف الجوى. ◄ «الرجل الحديدي» في أفلام «مارفل» سبب حبي المبكر للهندسة والفضاء والرياضيات والفيزياء ◄ أبحاثي تدعم استدامة الفضاء عبر تطوير مكونات قابلة لإعادة الاستخدام ◄ الحنين للوطن أكبر التحديات التي تواجهني بالخارج ■ ليلى محسن داخل مختبر فيزياء البلازما في برينستون بولاية نيوجيرسي ◄ كيف تصفين اللحظة الأولى التي قررتِ فيها دراسة الهندسة، وما الذى جذبك تحديدًا إلى هندسة الفضاء والطيران؟ ما جذبنى إلى الهندسة في البداية كان حبى المبكر للفضاء، والرياضيات، والفيزياء. فى طفولتى كنتُ أحب شخصية «تونى ستارك» (الرجل الحديدى فى أفلام مارفل الخيالية)، وهذا بالتأكيد ألهمني أكثر نحو الهندسة. درستُ علوم الحاسب فى مرحلة البكالوريوس، لكن شغفى بالفضاء زاد بمرور الوقت، وكنتُ دائمًا أرغب فى دراسة أنظمة المركبات الفضائية، وهذا ما دفعنى إلى تنفيذ مشروعات جانبية فى هندسة الفضاء والتقدُّم لوظائف متعلقة بها. ◄ درستِ في مصر قبل الانتقال إلى الخارج، كيف ساعدك تعليمك في مصر في بناء أساس قوى لمسيرتك المهنية اللاحقة؟ دراستي لعلوم الحاسب في الجامعة الأمريكيةبالقاهرة قبل سفرى إلى الولاياتالمتحدة منحتني خبرة كبيرة في البرمجة، وكانت بالفعل مفيدة جدًا في المساعدة على تصحيح الأكواد وكتابة البرامج الخاصة بأنظمة الفضاء التي تتضمن عمليات المحاكاة، وخوارزميات التعلم الآلي (Machine Learning Algorithms)، وأنظمة التحكم المدمجة (Embedded Control Systems)، وهى جميعها مكونات أساسية لبناء أى نظام فضائى متكامل. ■ الباحثة المصرية ليلى محسن ◄ أبحاث بالمنزل ◄ ما أبرز التحديات التي واجهتِها أثناء دراستك أو في بدايات مسيرتك المهنية بالخارج، وكيف تغلبتِ عليها؟ أكثر التحديات التى واجهتُها كانت الحنين إلى الوطن، والشعور بأننى متأخرة فى فهم موضوعات هندسة الفضاء المتقدمة، نظرًا لأن خلفيتى كانت في علوم الحاسب. لكن بمرور الوقت، ومن خلال اكتساب مهارات جديدة، والقيام بأبحاث جانبية في المنزل، تمكنت من تجاوز هذا الفارق واللحاق بزملائي. ◄ وما أبرز التحديات التقنية التي يواجهها فريقك في شركة «PSS» عند تصميم أنظمة الدفع أو التحكم للأقمار الصناعية الصغيرة؟ الأبحاث التى نقوم بها حاليًا تتركز فى مجالى السرعات فوق الصوتية (Hypersonics) والاندماج النووى (Fusion) كمصدر للطاقة والدفع الفضائى، رغم أن الشركة تمتلك أيضًا برمجيات ونماذج متقدمة للأقمار الصناعية الصغيرة. أما التحديات التقنية بالنسبة لى فإنها تتمثل فى التعامل مع التحليل بالعناصر المحدودة (Finite Element Method – FEM) وتحليل ديناميكا الموائع الحسابية (Computational Fluid Dynamics – CFD) للأنظمة المعقدة. وعمومًا، الاندماج النووى كمصدر للطاقة مجال بحثى مليء بالتحديات، مثل احتواء البلازما واستقرارها، بالإضافة إلى صعوبات تتعلق بوقود الاندماج، مثل ندرة نظير (الهيليوم-3) فى بعض دورات الاندماج غير النيوترونية. ◄ الإطلاق البارد ◄ هل يمكنك تبسيط أحد مشاريعك البحثية الحالية لغير المتخصصين مثل الملاحة أو التحكم فى وضعية المركبة الفضائية؟ من المشاريع التي أعتز بها عملى على نظام الاطلاق متعدد المراحل باستخدام ما يُعرف ب«الملف التحريضي» (Induction Coilgun) لإطلاق المركبات الفضائية فى الفضاء العميق بطريقة باردة، أي دون استخدام وقود كيميائي. وهذا النظام يتكون من مجموعة من الملفات الكهربائية التى تُفعَّل وتُطفأ بتتابع دقيق، بحيث تقوم المجالات المغناطيسية المتغيرة بتوليد قوة جذب ودفع تُحرّك الحمولة للأمام بسهولة. أما دورى فكان بناء نماذج العناصر المحدودة (FEM Models) ووضع منطق التحكم (Control Logic) لضمان تشغيل كل مرحلة فى اللحظة المناسبة لتحقيق تسارع متدرج وكفء. والهدف هو إنشاء منظومة إطلاق أنظف وقابلة لإعادة الاستخدام، يمكنها رفع المركبة الفضائية إلى ارتفاع كافٍ قبل تشغيل محركاتها، وقد عرضت هذا البحث في المؤتمر الأوروبي لعلوم الفضاء والطيران عام 2025 فى إيطاليا. ◄ الذكاء الاصطناعي ◄ إلى أي مدى تعتمدون على الذكاء الاصطناعي أو التعلُّم الآلي في تطوير الأنظمة الفضائية الحديثة؟ للتعلم الآلى تطبيقات عديدة مفيدة فى الأنظمة الفضائية الحديثة، لكننى لا أعتقد أنه من الأنسب الاعتماد عليه في القرارات الحساسة أو الحرجة فى آخر أجزاء الثانية، دون إشراف بشرى، إلا أنه مفيد فى مجالات مثل كشف الأعطال، والصيانة التنبؤية، وتقدير الوضع باستخدام الرؤية الحاسوبية. لقد عملت فى أحد المشاريع على استخدام التعلم الآلى لتقدير العمر المتبقى المفيد للمكونات الإلكترونية التى تُستخدم فى تسخين البلازما ضمن أنظمة الاندماج، وهو نظام يتنبأ بأنماط الأعطال المحتملة أثناء إجراء التجارب. ◄ كيف تسهم أبحاثك الحالية في المبادرات العالمية المتعلقة باستدامة الفضاء وتقليل الحطام المداري؟ عملى الحالى لا يركز مباشرة على تقليل الحطام الفضائى، لكنه يدعم استدامة الفضاء من خلال تطوير مكونات قابلة لإعادة الاستخدام. ◄ الاندماج النووي ◄ ما التقنية أو الابتكار الذي تعتقدين أنه قد يُحدث تحولًا في مستقبل استكشاف الفضاء؟ أعتقد أن الاندماج النووى كمصدر للطاقة والدفع يمكن أن يغيِّر مستقبل استكشاف الفضاء بشكل جذرى. إنه لا يزال في مراحله البحثية الأولى، لكن إذا أصبح بمقدورنا تطوير أنظمة اندماج مضغوطة وموثوقة، فسنتمكن من الحصول على طاقة عالية فى الفضاء العميق، وكفاءة دفع أفضل تسمح برحلات أسرع. ◄ هل تتعاونون مع مؤسسات بحثية أو جامعات أخرى في مشاريع مشتركة؟ وكيف يتم تبادل المعرفة بين الفرق البحثية؟ تتعاون شركة «برينستون ساتيلايت سيستمز» حاليًا مع مختبر فيزياء البلازما فى جامعة برينستون، ففى أبحاث مفاعل الاندماج يتم تبادل البيانات الناتجة عن التجارب بين الطرفين، ونزور المختبر أحيانًا أثناء الاختبارات. ◄ الأبحاث المصرية ◄ في ضوء خبرتك كمهندسة تعمل فى بيئة بحثية أمريكية، كيف يمكن لمصر تطوير منظومتها البحثية لتواكب المعايير العالمية؟ أتمنى أن تستثمر مصر أكثر فى الأبحاث المتقدمة مثل الاندماج النووى وأنظمة الطاقة الحديثة، لأنها مجالات تمثل حاجة عالمية حقيقية. كما أننى أرى أن توفير المزيد من المنح الدراسية وبرامج التدريب التى تربط الجامعات بالمختبرات الصناعية سيكون مفيدًا للغاية فى هذا الإطار. ◄ كيف ترين الدور المستقبلي لمصر في تطوير تكنولوجيا الأقمار الصناعية أو برامج الفضاء الإقليمية؟ أنا متفائلة جدًا بإمكانات مصر فى هذا المجال، وقد حضرت مؤتمر نيوسبيس أفريقيا والتقيت بأشخاص مميزين هناك. مصر تحقق تقدمًا رائعًا فى مجال الفضاء على مستوى القارة، وأنا فخورة جدًا بذلك. أرى أن مصر قادرة على قيادة مشاريع مراقبة الأرض (Earth Observation) والخدمات المناخية الإقليمية، وتوسيع برامج الفضاء الجامعية، وإطلاق بعثات فضائية مشتركة عبر شراكات إفريقية. ◄ ما الصفات التى ينبغى أن يتحلى بها المهندس أو الباحث ليحقق النجاح في صناعة الفضاء؟ أعتقد أن القدرة على التواصل وبناء العلاقات المهنية، وعرض الأفكار والنتائج بفاعلية من أهم الصفات التى يجب أن يمتلكها المهندس. بالطبع العمل الجاد والمثابرة ضروريان، لكن الأهم أن تعرف كيف تشرح أهمية عملك ولماذا يستحق الاستثمار، وأن تتواصل مع الأشخاص المناسبين الذين يمكنهم إرشادك فى مسيرتك. ◄ أبحاث وترفيه ◄ كيف توازنين بين حياتك الشخصية ومتطلبات العمل البحثي المكثف في مجالك؟ أحرص على تخصيص وقت يومى للتحدث مع عائلتى وأصدقائى في مصر، والخروج فى عطلات نهاية الأسبوع، كما أحاول السفر داخل الولاياتالمتحدة من حين إلى آخر للترفيه والتجديد. ◄ هل شعرتِ يومًا أن كونكِ امرأة عربية فى مجال يغلب عليه الطابع الغربى كان تحديًا أم مصدر قوة وتميُّز؟ فيما يتعلق بهذه المسألة لم أواجه أى تحديات تُذكر فى شركتى أو فى المؤتمرات التى شاركت بها، ولله الحمد. على العكس، أشعر دائمًا بوجود احترام متبادل. ◄ ما هو حلمك أو طموحك العلمي الأكبر في السنوات المقبلة؟ أتمنى أن أكتشف شيئًا ذا قيمة من خلال أبحاثى، وأن أبنى نظامًا مفيدًا يُستخدم لسنوات طويلة، كما أتمنى أن أرى أحد مشاريعى يُطلق إلى الفضاء يومًا ما. ◄ نصيحة للطلاب ◄ أخيرًا، ما النصيحة التي تقدمينها للطلاب المصريين الذين يطمحون للعمل في مجالات هندسة الفضاء أو الهندسة المعتمدة على الذكاء الاصطناعي؟ أنصحهم بالعمل على مشروعات جانبية (Side Projects) مرتبطة بالمجال، ومتابعة دروس تعليمية بسيطة عبر الإنترنت لبناء أنظمة فضائية أو أنظمة ذكاء اصطناعي تجريبية. الكثير من العمل فى هذه المجالات يعتمد على البرمجة، لذا تنفيذ مشاريع صغيرة سيساعد في اكتساب المهارات الأساسية. وإن أمكن، تعاونوا مع أحد الأساتذة فى بحثٍ علمى واسع النطاق، وحاولوا نشر ورقة بحثية فى المجال. كما أنصحهم بالنظر إلى إعلانات الوظائف التي يطمحون إليها، ومعرفة المهارات والشهادات المطلوبة، ومحاولة اكتسابها مبكرًا. والأهم من ذلك كله المثابرة وعدم الاستسلام حتى بعد مئات من المحاولات التى تُقابل بالرفض.