يزداد حزننا على موتانا عندما تحول الظروف دون أن نتمكن من المشاركة فى الصلاة عليهم وتشييعهم إلى مثواهم الأخير زمان قبل السوشيال ميديا، كنت أتحاشى كلما دخلت الجريدة صباحًا النظر فى لوحة الإعلانات المثبتة بجوار الأسانسير، والتي تحمل قليلاً من الفرح، كثيراً من الحزن، «انتقل إلى رحمة الله تعالى الزميل فلان الفلاني، ستقام صلاة الجنازة في مسجد كذا عقب صلاة الظهر، سيتحرك الأوتوبيس من أمام الجريدة الساعة العاشرة والنصف للمشاركة فى تشييع الزميل العزيز الغالي»، كنت أهرب من تلك اللوحة الصماء التى تنقل لنا أنباء رحيل هؤلاء الأحباب الذين نقضى جل أعمارنا معهم داخل جدران دارنا الحبيبة، نتقاسم الكلمة واللقمة والأحلام بعد أن جمعنا حب تلك المهنة الصعبة القاسية التى لم أعد أتمناها لأى عزيز، ليس فقط لأنها مهنة البحث عن المتاعب، ولكن لأن الزمالة فيها تتحول بفعل الوقت الذى نمضيه فيها سويًا إلى صداقة وأخوة حقيقية، ربما لا يتاح لنا ممارستها مع إخوتنا فى الدم. ومع ذلك وبمجرد أن نضع أحبابنا في التراب نعود لمقر الجريدة التي ينتظرها القارئ صباحًا، حيث لن يغفر لنا تأخيرها عنه مهما كانت الأسباب. انتقل خوفي من لوحة الإعلانات إلى مواقع التواصل الاجتماعى التي يندر أن تفتحها لتجد خبرًا مفرحًا، فقد تحولت إلى لوحة إعلانات، لكنها من النوع الذي لن ينتظر قدومك للجريدة صباحًا، لتصفعك بتلك الأنباء المحزنة، بل ستهاجمك إشعاراتها القاسية بمجرد أن تفتح موبايلك أينما كنت، حاضرًا أم غائبًا، قريبًا أم بعيدًا. وبينما كنت مؤخرًا فى الأقصر الحبيبة، جاءني خبر وفاة الحبيب الغالى خالد حجاج، لم يكن الخبر مفاجأة حيث ألمت بالزميل أزمة صحية شديدة خلال الأيام السابقة على رحيله. دار في ذهني شريط طويل من الذكريات التى جمعتنى بالفقيد الغالي، الذى رحل دون أن يجيبنى على أسئلتي التي كنت أطارده بها، والتي لم يكن يجيب عنها سوى بتلك الابتسامة الصافية التى تخرج من قلبه مباشرة، كيف استطعت يا خالد أن تحتفظ بنقائك وسط كل الأجواء المتصارعة، كيف انتصر صفاؤك وسلامك النفسى على أى شعور آخر، ربما يكون راودك يوماً ما، ألا تحلم يا رجل بمنصب أرفع من منصبك، لِمَ لَمْ تحاول مرة أن تصعد على حساب زميل لك، ألم تتمنى الزعامة يومًا ما، كيف نجحت يا صديقي ألا تنظر طيلة مشوارك إلا في ورقتك الخاصة، وألا تشغل نفسك بأوراق الآخرين، كيف لم تحلم يومًا بحلم غيرك، وكيف لم تنظر يومًا لما هو فى يد أي زميل آخر، كيف لم أسمع أنا ولا أي زميل صوتك في خناقة من مثل تلك الخناقات التى تدور بين الزملاء الذين يعملون في مكان واحد أيامًا وساعات طويلة تحت ضغط غير عادي، كيف تماسكت ولم تضعف ضد إغراء السوشيال ميديا، وقضيت عمرك بدون فيس، ولا انستجرام، ولا غيرها من الوسائل التى أفقدتنا كثيراً من إنسانيتنا، كيف نجحت أن تدير حياتك بدون موبايل حتى وقت قريب، عندما اضطررت لاقتنائه تحت ضغط لمتابعة أولادك، ولتطمئن به فقط عليهم وعلى أحفادك، لدرجة أنك لم تأتْ به يومًا للعمل. كيف لم تستخدم يومًا تليفونات الجريدة فى الرغى عمال على بطال، كما يفعل أغلبنا فيما ليس له علاقة بالعمل، وكيف لم تكن ترفع السماعة إلا لتتلقى خبرًا من زميل يريد إملاؤه، أو تستوثق منه عن معلومة وردت فى الخبر الذى تقوم بإعادة صياغته، قبل تسليمه للزميل المسئول عن إصدار العدد. كيف لم أضبطك يومًا تستخدم ورق الجريدة «الدشت» في أي شيء غير مصلحة العمل، ولو حتى في الوضوء، وكنت إذا سألتك أن تعطيني ورقتين تفتح لى تحقيقًا لتتأكد من أنني لن أستخدمهما سوى فى الشغل، كيف لم تلوثك الحوادث ولا الأحاديث، كيف ظللت عمرك كله نبيلًا من النبلاء وفارسًا يتصف بكل صفات الفرسان. كيف أتقنت أن تكتم آلامك حتى عن أقرب الناس إليك حتى لا تزعجهم، فلم نسمعك تشكو مرضًا أبدًا، حتى فى مرض الموت الذى لم تفصح عنه، إلى أن قام هو بقهر صمتك، وظهر علانية، فى مفاجأة أذهلتنا كلنا؟ رحمك الله أيها النموذج المتفرد في كل شيء، سنبكيك ما بقى لنا فى الحياة من أنفاس، وستظل دومًا دار أخبار اليوم تذكرك كواحد ممن مروا على تاريخها ممن يتصفون بنقاء السريرية وعفة اللسان وطيبة القلب، وكل أخلاقك الحميدة التى يشهد لك بها البشر والحجر والشجر، وإذا كنت رحلت عنا يا خالد بجسدك، فستبقى بيننا بسيرتك العطرة، التى نحكيها للأجيال الصحفية القادمة، عنوانها أن تكون صحفيًا لا يتنافى أبدًا مع إنسانيته الحقيقية، وفطرتك السليمة التي فطرك الله سبحانه وتعالى عليها. رحمك الله يا صديقى رحمة واسعة، وأسكنك الفردوس الأعلى من الجنة مع الصديقين والنبيين والشهداء، وحسن أولئك رفيقًا، وإنا لله وإنا إليه راجعون.