الحب، الرحمة، التسامح، العدل.. قيم ومشاعر وصفات، ميزنا بها الله عن سائر الخلق لتكتمل إنسانيتنا، فإذا غابت ضاعت الإنسانية، وتحولنا إلى وحوش. شكاوى كثيرة أسمعها وأعيشها ليل نهار من أناس يعانون وحدة قاسية رغم الزحام، من علاقات أسرية تحولت إلى صراع، وأصدقاء تحولوا إلى خصوم، وزملاء عمل أصبحوا منافسين لا يرحمون.. من أمهات يشتكين عقوق الأبناء، وآباء لا يرون أبناءهم.. فى كل شكوى ألم، وفى كل حكاية سؤال، هل جف نهر الحب من قلوبنا؟ لماذا لم نعد نرحم ونتسامح مع بعضنا كما كنا من قبل؟! السؤال قد يبدو بسيطا لكنه يخفى وراءه ما هو أعمق من مجرد ملاحظة أو شكوى عابرة، فى زمن تتغير فيه ملامح الحياة بسرعة مذهلة.. كنا فى الماضى نعيش فى بيوت يتشارك سكانها الخبز والماء والفرح والحزن.. كانت القلوب دافئة، تتسع للجميع، والوجوه مألوفة حتى ولو لم تكن معروفة.. زمان كان الحب يسكن البيوت قبل أن تسكنها الكهرباء، كان الناس يعرفون معنى الرحمة ويتسمون بروح التسامح، قبل أن يعرفوا الإنترنت. زمان كان الواحد لما يبكى يلاقى حضن، لما يتوجع يلاقى كلمة «ربنا يشفيك» خارجة من القلب، أما اليوم، فالبكاء وراء شاشة، والوجع بيرد عليه «روبوت» والاشتياق بقى «فيديو كول».. اليوم نعيش فى عمارات شاهقة، لا نعرف الجيران، تحيط بنا الجدران والأسوار، وتفصلنا العيون الحذرة والقلوب المتوجسة. لقد تغير كل شىء من حولنا.. البشر غارقون فى همومهم ومشاكلهم، يركضون وراء الإنترنت، وتوفير سبل المعيشة، التكنولوجيا احتلت القلوب.. والدفء الإنسانى أصبح خيارا باهتا فى قائمة طويلة من الاعدادات. الحب ليس مجرد كلمة نرددها على الألسنة، ولا شعور عابر نعيشه للحظات ثم ننساه، بل هو القمر الذى يضىء الظلام فى قلوبنا، هو النهر الذى يجرى فى أعماقنا، فيصنع فى حياتنا واحة من الراحة والسعادة.. لكن يبدو أن هذا النهر قد جفَّ أو غمرته نفايات الحداثة، فأصبحنا نخجل من إظهار مشاعرنا الطيبة، وكأن الحب صار ترفا لا يليق بصرامة هذا الزمن المتجهم. الحديث عن الحب والغفران ليس حديثا رومانسيا بعيدا عن الواقع، بل هو صميم الحياة الإنسانية.. نحن لا نحتاج إلى ثورات اجتماعية بقدر ما نحتاج إلى ثورة فى القلوب.. إلى أن نعيد ترتيب أولوياتنا.. أن نقدم مشاعرنا الطيبة على حساباتنا الباردة.. أن نحتكم إلى ضمير حى قبل أن نحكم على الآخرين. أما العدل الذى أتحدث عنه فهو ليس فقط عدل القاضى فى المحكمة.. بل عدل الإنسان فى بيته، فى عمله، فى تعامله مع من يحب ومن يختلف معه.. هو العدل الذى يمنعنا من ظلم أقرب الناس إلينا بكلمة قاسية أو حكم متسرع، أو تجاهل مؤلم.. هو أن نبصر أنفسنا قبل أن نحاسب غيرنا.. وأن نمد يد الرحمة قبل أن نمد يد الاتهام. قد يبدو حديثى نوعا من المثالية، لكنه فى الحقيقة دعوة بسيطة للعودة إلى الأصل، إلى ما يجعلنا بشرا بحق.. أن نمنح الحب دون انتظار مقابل، وأن نغفر لأننا نحتاج إلى الغفران، وأن نتحمل لاننا جميعا نخطئ ونتعثر.. هذه ليست صفات للضعفاء، بل هى علامات قوة داخلية لا يمتلكها إلا من عرف قيمة الإنسان. فى نهاية المطاف لن يخلدنا أحد من أجل صرامتنا، ولا سيروى أحد حكايات قوتنا.. لكنهم سيتذكرون كلمة حانية قلناها فى وقتها، ويداً امتدت فى وقت الحاجة، وصدراً اتسع لاحزانهم حين ضاق بهم العالم.. وهذا هو الحب الحقيقي، أن تكون ملجأ للناس لا عبئا عليهم، أن تكون إنسانا قبل أن تكون أى شىء آخر. أصبح من النادر أن نتحمل بعضنا، نشكو من قسوة الآخرين لكننا لا نعترف بقسوتنا.. نطلب الرحمة، لكننا نبخل بها على من حولنا.. لا نغفر بسهولة، وننسى أن الغفران راحة للنفس قبل أن يكون معروفا للآخرين.. ما أقسى أن نرى العلاقات تنهار من أول سوء تفاهم.. وأن تتحول المودة إلى خصومة لمجرد كلمة لم تفسر على الوجه الصحيح.. نحن لا نمنح الوقت لمن نحبهم، ولا نمهل أحدا فرصة للتبرير أو الاعتذار، أصبحت قلوبنا مشغولة بما لا يستحق، وعيوننا تفتش عن الأخطاء قبل أن تبحث عن الجمال. فى زمن السرعة والانشغال، اختفت المجالس الدافئة والأحاديث العميقة، استبدلنا بالقُرب الشاشات، وبالمشاعر الرموز التعبيرية.. أصبحنا نفضل الصمت على المكاشفة، والانسحاب على المواجهة.. نعيش بين الناس لكننا نعانى من وحدة باردة، لا دفء فيها ولا احتواء.. ربما لأننا فقدنا القدرة على الصبر، وربما لأننا فقدنا الثقة بأن هناك من يستحق أن نفتح له أبواب أرواحنا. لماذا لا نغفر؟ لأننا نعيش فى عالم يحاسب الناس على زلاتهم بأقصى العقوبات، بينما نطلب لأنفسنا التماس العذر والرحمة.. ننسى أن كل إنسان يخوض معركته الخاصة، وأن وراء كل تصرف قصة لا نعرفها.. نطلب أن يفهمنا الآخرون، لكننا لا نحاول أن نفهمهم.. نغلق الأبواب، ونرفع الجدران، ثم نتساءل: لماذا لا يقترب منا أحد؟ الغفران يحتاج إلى شجاعة، والاحتواء يحتاج إلى حكمة، وكلاهما أصبح عملة نادرة فى زمن لا يتوقف عن الجرى. قد لا أملك عباءة المستقبل، لكنى أرى فى العيون نورا ينتظر أن يستعاد.. الحب لا يموت، الرحمة لا تموت، والعدل بين البشر لا يمحى إذا تحلينا به.. فليكن كل منا البذرة التى نزرعها فى قلب مجتمع خُدش بين الإشعارات.. فإذا فقدنا أنفاسنا أحيانا، فلتكن الكلمة الطيبة آخر ما نفقده. نحتاج إلى الحب، إلى الرحمة، إلى العدل، لا كمفاهيم عامة، بل كممارسة يومية.. نحتاج إلى أن نحب بعضنا مرة أخرى، ببساطة، بصدق، وبدون خوف. علينا ألا نجعل الدنيا تسرق أجمل ما فينا.. حافظوا على قلوبكم دافئة مفتوحة صادقة، لا تخافوا من الحب، واغفروا ولو لمرة واحدة.. ربما لا نملك أن نغير العالم، لكننا نملك أن نبدأ بأنفسنا، أن نرحم ونحب ونغفر. وفى النهاية أتساءل: أين الخطاب الدينى الذى يعيدنا إلى جوهر العلاقات الإنسانية؟ أين التعليم الذى يغرس فينا الرحمة والمغفرة قبل البرمجة؟!