لا أعرف خبرة شعورية فى حياتى تماثلها، ولم أذق فى عمرى إحساسا يشبهها، وظل عبق تلك الأيام الخالدة يملأ جنبات روحى، وعلى الرغم من أننى لم أكن قد اجتزت عتبات النضوج بعد، إلا أن مشاعرى المرفرفة فى أفق هذه الفترة الاستثنائية فى تاريخ أمتنا، وعلى مستوى وجدانى الجياش، وضميرى الحساس، لم أر لها شبيها، ومع أننى كنت لازلت فى مقتبل السنوات الغضة، إلا أن أوار تلك الأيام لم تهدأ حدته فى روحى، ولم تخفت بهجته فى نفسى، لقد فعلها المصريون، حطموا الأسطورة، واجتازوا المحال، وعبروا إلى ضفاف الكرامة، فبدت ملحمة يوم السادس من أكتوبر.. فاتحة الانتصارات، وما تلاها من أيام مجيدة، أنشودة خالدة، لا يطمس معالمها الزمن، ولا يخفى تراكم العقود سطوعها فى الضمائر، ألم تستعد - بفضلها - الأمة الجريحة شرفها ؟ ونفضت الأوطان العريقة عبرها أوحال انكسارها ؟، وصحيح أن إرهاصات تلك المشاعر الرائعة انطلقت مع معارك حرب الاستنزاف، إلا أن قطف ثمرة الظفر الناضجة بدأ فى ذلك اليوم المشرق، واكتمل فى الأيام المجيدة التالية، ووقفت أمة بأكملها على منصات الكرامة، تطل على عالم ظن أنها انطفأ نجمها، وببسالة وبطولات وتضحيات القوات المسلحة المصرية، عبرت بلادنا مستنقعات الذل والانكسار، فارتفعت هاماتنا جميعا، لذا أصبحت الأيام الشاهدة على الملحمة الفارقة منقوشة فى الأذهان، محفورة فى الضمائر، حيث سرى نسيم الكرامة، وفاح عطر العزة، يصافح الوجوه الباسمة، وكلما حلت ذكرى انتصارات أكتوبر المجيدة، انبعثت فى الضمائر الحية، والنفوس السوية، روح وهاجة، تعلن فى الأفق أن الذين فعلوها فى أكتوبر 73 لهم أحفاد متأهبون دوما لصد كل عدوان، وقهر أى تهديد.