من بستان الغرام والطرب اكتفى ب «وردة» ولم يشأ القدر أن يكون له منها أبناء، ولكن بحبها.. أنجب أعظم الألحان، وبحبه غنّت هي ما لا يُمحى من دفاتر الطرب الحقيقي، وقبل زواجها منه همس عبد الحليم حافظ في أذنها قائلًا: لا توافقي على الزواج من بليغ حمدي! - لماذا يا حليم؟ - بليغ بوهيمي ومجنون! لم تكترث «وردة» بنصيحة العندليب وآخرين من المشاهير، وأصرت أن تخوض المغامرة مع رجل عكس طباعها تمامًا، وارتضت الارتباط بشخصٍ «بوهيمي» يتمرد على كل ما هو مألوف، ويميل إلى العفوية والروح الحرة، ولا يكترث بالأعراف الاجتماعية، وارتضت بكل صفاته؛ لأنه أجاد العزف على وتر الروح، فرضخ له القلب، وطاب له الجسد، وتم عقد قرانهما عام 1972. وبالفعل.. حدد بليغ ووردة موعد الزفاف، ولكنه نسي الأمر تمامًا، وكان في نفس توقيت الفرح على متن الطائرة متجهًا إلى بيروت في رحلة عمل. اقرأ أيضا|في ذكرى ميلاد بليغ حمدي.. «ساحر الألحان» الذي غيّر وجه الطرب العربي باتت وردة في حيرة وحرج شديد، وظلت تتساءل وسط المدعوين من أصدقائهما: كيف ينسي عريس يوم زفافه؟! فضحك عبد الحليم حافظ بشماته وقال لها: مش قلت لك بليغ مجنون! ولكن بعد يوم من سفره عاد بليغ معتذرًا لوردة، وعاشا في سعادة غامرة، ودامت زيجتهما 6 سنوات، انتهت «اجتماعيًا» بورقة طلاق، وفنيا بأغنية "بودعك" التي كانت آخر ما لحن بليغ لمعشوقته، بعد أن صارت أكثر من لحن لها في مسيرته، التي امتدت بمجموعة ألحان قيل إنها تجاوزت الألفين. وعن سبب الانفصال أوضحت وردة في أحد حواراتها التليفزيونية أنها لم تستطع تحتمل فوضويته. حكاية الحب الأول لم تكن وردة هي المرأة الأولى في حياة بليغ إذ أنه في بداية حياته وعلى عكس مقدماته الموسيقية الطويلة الرائعة عبَّر عن مشاعره تجاه فتاة من الإسكندرية (أمنية طحيمر) من أول نظرة، وتزوجها في عمر مبكر، ولكن نظرا لعدم نضج التجربة لم يستمر الزواج أكثر من عام واحد. الميلاد والنشأة العبقرية هو أحد مواليد شهر العظماء «أكتوبر» إذ ولد في السابع منه عام 1931. كان رفقاؤه من الصغار يقضون وقتهم في اللعب، بينما أتقن هو العزف على العود بعمر تسع سنوات؛ باحثًا عن تفوقٍ فريد في عالم النغم، حتى أنه حاول الالتحاق بمعهد الموسيقى العربية في هذا العمر إلى أن حداثة سنه حالت دون ذلك. وفي الوقت الذي كان أبوه يكتشف المزيد من خصائص المواد وطبيعة المواد باعتباره أستاذًا في الفيزياء بجامعة فؤاد الأول كان بليغ حمدي يضع إمكاناته الفائقة تحت المجهر للإعلان عن اكتشاف موهبته النادرة وهو بعمر تسع سنوات! في بداياته.. لم يقصد أن يكون ملحنًا وكانت خطواته الأولى مطربًا يصدح بصوته المميز موشحات وأغاني القدامي وسط استحسان كثيرين ممن حوله. ترك الطرب من أجل التلحين لم يكن حلم بليغ حمدي أن يكون مطربا أبدا، رغم اجتيازه الاختبارات كافة، فكذّب نتائج الاختبارات التي أكدت نجاحه مطربًا معتمدًا بالإذاعة وصدّق موهبته كملحن، وحين سُئل عن ذلك قال: المطرب يلتزم بمواعيد وأوركسترا وحفلات، وهذا بالنسبة لي مستحيل، واكتفى بتسجيل 4 أغنيات بصوته. ولم يكن بليغ يحب سماع اللحن سوى مرة واحدة، وحين سُئل عن ذلك قال: حتى أهرب من فخ الإعجاب بالذات، ولا يعطلني لحن عن الذي يليه. التحق «بليغ» بكلية الحقوق واعتبرها سلمة الحصول على شهادة جامعية، وترك زملاءه بين أروقتها، بينما انشغل هو بتفصيل «قوانين» موسيقية جديدة من براءة اختراعه؛ لتحقيق معادلة: «كيف يكون الطرب على أصوله» مراعيا «محكمة» الذوق العام، التي لا تنصف غير الموهوبين، ولا تغفر لمن يتجاوز في حق ذوقها ويكون حكمها الصارم بالنسيان المبين. أقنع « محمد حسن الشجاعي» مستشار الإذاعة المصرية وقتها بليغ باحتراف الغناء، وبالفعل سجل للإذاعة أربع أغنيات، لكن تفكيره كان متجها للتلحين، منذ كان طفلًا. علاقة قوية بمحمد فوزي توطدت علاقته بالفنان الموسيقار العبقري محمد فوزي، الذي أعطاه فرصة التلحين لكبار المطربين والمطربات من خلال شركة (مصر فون) التي كان يملكها. واستمر فوزي في مساندته حتى أوصله- في جلسة كانت بالصدفة - لقمة مجده بالتلحين لأم كلثوم أغنية «حب إيه» عام 1960 ورغم وصول بليغ لأقصى الأماني بالتلحين لأم كلثوم، لكنه قال إنه كان يتمنى التلحين لأسمهان وليلى مراد. العندليب وبليغ الموسيقى وعلى عكس علاقة الصداقة «الإنسانية والفنية» القوية التي ربطت بين حليم وبليغ تصادف أن تبدأ علاقتهما الفنية بالشكوي من الخيانة، وانتهت بالتحذير من البكاء! إذ كان أول لحن غناه عبد الحليم لبليغ عام 1957 (تخونوه) وآخر ألحانه له رائعته «أي دمعة حزن لا». ثورة في عالم الطرب أحدثت ألحان بليغ ومقدماته اللحنية الشجية انقلابًا في عالم الطرب، وأربكت خطوط «إنتاج» عمالقة الموسيقى وجعلتهم يعيدون حسابتهم قبل أي لحن جديد، فأدخلوا مواهبهم مربع الإحماء من جديد، فكانت رائعة محمد الموجي «قارئة الفنجان» وكشف عبد الوهاب عن جانب جديد من عبقريته ب «نبتدي منين الحكاية» واستعرض سيد مكاوي فتونته في التلحين ب «يا مسهرني». موهبة استثنائية ونادرة وكعادة العباقرة ورغم وصوله قمة المجد الموسيقي لم يقل بليغ عن نفسه أنه موهوب! رغم أنه كان في عهده أمل التلحين في مصر كما وصفه عبد الحليم حافظ، وأحد أهم المجددين التاريخيين في تاريخ الموسيقى العربية. ومن فرط موهبته قال عنه موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب إن بليغ أكثر ملحن يأتي إليه الإلهام، وكان لدى عبد الوهاب قناعة تامة بأن بليغ لا يجتهد كثيراً في التعايش مع الجملة الموسيقية قبل تقديمها. المحطة الأخيرة وفي 12 سبتمبر 1993 توفي بليغ الموسيقى العربية عن عمر ناهز 62 عامًا بعد صراع مع مرض الكبد، ونعته الأهرام في صبيحة اليوم التالي بوصفها: (مات ملك الموسيقى)، كما أعلنت وزارة المالية حينها أنها بصدد طبع عملة تذكارية باسمه إلا أن ذلك لم يحدث حتى الآن، ولم ينل بليغ من التكريم في حياته أو بعد مماته ما يؤكد أنه أفضل من أنجبت الموسيقى العربية على مدى تاريخها، ولكن معجبيه ومحبيه يؤكدون ذلك كل الوقت بالاستماع بفنه الذي سيظل باقيا في الوجدان، عصيًا على النسيان.