بعد مرور عامين على اندلاع حرب غزة فى السابع من أكتوبر 2023، ما تزال آثارها ماثلة على المستويات العسكرية والسياسية والإنسانية، وتداعياتها تتجاوز حدود القطاع لتطال النظام الإقليمى بأسره، فقد شكلت تلك الحرب واحدة من أعقد جولات الصراع الفلسطينى - الإسرائيلي، إذ امتزجت فيها طبيعة المواجهة غير المتماثلة بين جيش تقليدى مدجج بالسلاح وحركة مقاومة محدودة الموارد، مع انعكاسات جيوسياسية طالت مختلف الجبهات فى المنطقة، ومع اتساع نطاق العمليات وتزايد حجم الخسائر، لم تعد الأسئلة تقتصر على ميزان القوة الميدانية، بل امتدت إلى جوهر القرار السياسي، ومصداقية المبادرات الدولية، وحدود دور القوى الإقليمية فى إدارة الصراع أو احتوائه. وفى هذا السياق، استطلعت «الأخبار» آراء عدد من الخبراء، للوقوف على أبعاد الحرب ونتائجها بعد مرور عامين، وما كشفته من ثغرات فى حسابات الفاعلين، فضلاً عن استشراف مستقبل التسويات المحتملة، والخيارات المطروحة أمام الأطراف الإقليمية والدولية فى ظل بيئة استراتيجية أكثر تعقيداً واضطراباً. أكد العميد سمير راغب، مدير المؤسسة العربية للدراسات الاستراتيجية، أن حرب غزة كانت مواجهة غير متماثلة بين جيش تقليدى يملك التفوق الكمى والنوعى فى التسليح والمعلومات والقيادة، وبين حركة حماس التى تعتمد أسلوب حرب العصابات دون دبابات أو غطاء جوى أو دفاع جوي، موضحًا أن الجغرافيا لعبت دوراً محورياً؛ فبينما تكبد المدنيون الفلسطينيون خسائر كبيرة، استفاد الجيش الإسرائيلى من طبيعة القطاع المسطحة وضيق مساحته لتقسيمه وفرض السيطرة على معظم مناطقه. اقرأ أيضًا | عامان على طوفان الأقصي | تل أبيب.. لجان التحقيق «كابوس نتنياهو الأكبر» وأضاف ل«الأخبار» أن صواريخ المقاومة تحسنت من حيث المدى والدقة لكنها بقيت محدودة التأثير الاستراتيجي، مقتصرة على الضغط على الجبهة الداخلية الإسرائيلية، مع كشف بعض ثغرات فى «القبة الحديدية»، ولفت إلى أن إسرائيل تعاملت مع التهديدات الصاروخية بتركيز دفاعاتها على الأهداف الحيوية بمساعدة أمريكية. وأوضح «راغب» أن هجوم السابع من أكتوبر كشف انهيار الردع الإسرائيلي، لكنه سرعان ما أُعيد بناؤه مع تراجع قدرات المقاومة، كما شدد على أن المواقف العربية، خصوصاً من مصر ودول الخليج، كان لها أثر أكبر من أدوار إيران أو حزب الله، لافتاً إلى أن الحوثيين وحدهم واصلوا إطلاق الصواريخ بانتظام. وأكد أن إسرائيل استفادت سياسياً من تصوير نفسها كدولة صغيرة تواجه سبع جبهات، ما منحها دعماً دولياً واسعاً، كما استغلت انشغال العالم بحرب غزة لتكثيف عملياتها فى سوريا، أما الدعم الخارجى لحماس فاقتصر على التمويل والغطاء السياسى دون إدخال أسلحة نوعية، فيما جاء الدعم الحقيقى من الشارع العربى والضغط الدولى لتمرير المساعدات. وختم الخبير العسكري، بالقول إن الحرب تحولت إلى «حرب إبادة» بعد سيطرة إسرائيل على نحو 75% من أراضى القطاع، مرجحاً استمرار الصراع ما لم يتم التوصل إلى تسوية، مع استبعاده أن تقدم حماس على مفاجآت كبرى فى المستقبل. تحالفات بديلة من جانبه، قال أحمد سلطان، الخبير فى شئون الأمن الإقليمي، إن عملية السابع من أكتوبر استندت إلى تقدير خاطئ من حماس، إذ توقعت حرباً محدودة على غرار جولات سابقة تنتهى بتدخل الوسطاء خلال أسابيع، كما راهنت على تدخل محور المقاومة وفتح جبهات موازية من لبنان أو الجولان، وهو ما لم يحدث، فوجدت نفسها فى مواجهة حرب شاملة أدت إلى دمار غزة واستنزاف قوتها العسكرية. وأضاف ل«الأخبار» أن نتائج القرار تجاوزت غزة لتخلق حراكاً إقليمياً متصاعداً يهدف إلى كبح الهيمنة الإسرائيلية وبناء ترتيبات أمنية جديدة قائمة على التعاون بين القوى الإقليمية، واعتبر أن تصريحات نتنياهو التى شبه فيها إسرائيل ب«أسبرطة» تجسد توجهه لفرض معادلات قائمة على القوة العسكرية وحدها. وأشار «سلطان» إلى أن تراجع الدور الأمريكى فى المنطقة، خاصة مع إدارة ترامب، دفع دولاً عديدة إلى البحث عن تحالفات بديلة وتنويع مصادر السلاح، بينما تسعى قوى مثل روسيا والصين لملء الفراغ، ورأى أن المرحلة المقبلة ستشهد سباق تسلح وتصاعد العسكرة، مع توسع التنافس الجيوسياسى الذى قد يعيد تشكيل النظامين الإقليمى والدولي. البوصلة مصرية وفى ذات السياق، أكدت د. إيمان زهران، أستاذ العلوم السياسية، أن أحداث السابع من أكتوبر شكلت نقطة تحول مفصلية فى الأمن الإقليمي، مع اتساع نطاق الصراع إلى جبهات فى لبنانوسوريا واليمن، إضافة إلى الضربات المتبادلة بين إسرائيل وإيران، وشددت على أن هذه التطورات وضعت الأمن القومى المصرى فى قلب المعادلة، مؤكدة أن القاهرة كانت وما زالت البوصلة الأهم فى تشكيل الوعى الدولى بالقضية الفلسطينية. وأضافت ل«الأخبار» أن مصر نجحت فى انتزاع اعترافات أممية بحق إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، كما قادت التوافقات حول إعادة الإعمار ووقف إطلاق النار، واعتبرت أن «خطة السلام» الأمريكية الأخيرة لا يمكن قراءتها بمعزل عن مساعى إدارة ترامب لإعادة التموضع دولياً وتعزيز نفوذها فى الخليج، أكثر من كونها تسوية عادلة للصراع. وأوضحت «زهران» أن الخطة تمنح إسرائيل ضمانات أمنية واتفاقيات جديدة مع دول عربية وإسلامية، فيما تفتقر للضمانات الكفيلة بتنفيذها، وهو ما يجعلها محل رفض من حماس، منوهة أن الحركة فقدت مصداقيتها عربياً ودولياً بسبب غياب المرونة فى التعامل مع الملف الإنساني، ومحاولتها استغلال معاناة المدنيين لمكاسب سياسية، فضلاً عن خلافات داخلية تزيد من ضعف موقعها التفاوضي. وعن المستقبل، رأت «زهران» أن الإقليم العربى لم يعد يُعرف بالتفاعلات الاقتصادية بل بميزان القوة والقدرات العسكرية، وسط حالة من السيولة بين التعاون والصراع، وأكدت أن مصر تنتهج سياسة التوازن الاستراتيجى والانفتاح المرن، معتمدة على ثقلها الإقليمى وأدواتها المتنوعة لإعادة هندسة مسارات الحل والتسوية بما يضمن الاستقرار بعيداً عن الأطروحات الأمريكية والإسرائيلية. ختامًا؛ فإن مرور عامين على حرب غزة لم يبدد غبارها، بل كشف عن تعقيدات أعمق فى المشهدين الفلسطينى والإقليمي، فبين حرب غير متماثلة تحولت إلى حرب إبادة، وقرار سياسى خاطئ قاد إلى كارثة استراتيجية، وتوازنات إقليمية تعيد رسم خريطة الأمن فى المنطقة، يبقى مستقبل الصراع مرهوناً بقدرة القوى الإقليمية والدولية على تجاوز منطق القوة العسكرية نحو تسوية عادلة ومستدامة تضمن الأمن والاستقرار لشعوب المنطقة.