تسبب الحكم على الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، في قضية التمويل الأجنبي لحملته الانتخابية، في إحداث صدمة سياسية و زلزالًا قضائيًا في الأوساط الفرنسية، كونه الأول من نوعه في تاريخ الجمهورية الفرنسية، وتصاعدت على إثره نظريات المؤامرة، وبلغ الأمر ذروته بتهديدات تلقاها القضاة أنفسهم، الذين أصدروا الحكم، وفتحت تحقيقات تباشرها النيابة العامة. وفي الوقت الذى توعد فيه ساركوزي بالنضال حتى آخر نفس لإثبات نزاهته، قرر أنه لن يطلب العفو من الرئيس الفرنسي الحالي إيمانويل ماكرون، وندد بما وصفه بالمؤامرة التى تحيط بأهم وثيقة تستند عليها إجراءات المحاكمة، واتهم النظام القضائي الفرنسي بأنه يفتقر إلى الضوابط والتوازنات التي تهدد التوازن الديمقراطي. وقضت محكمة باريس الجنائية بالحُكم على نيكولا ساركوزي بالسجن خمس سنوات في القضية المعروفة باسم التمويل الليبي لحملته الرئاسية لعام 2007، بتهمة التآمر الجنائي، وأمرت بسجنه مستقبلاً وحددت النيابة العامة الفرنسية يوم 13 أكتوبر المقبل لاستدعائه وتحديد موعد سجنه. وخلصت المحكمة إلى خمس نقاط أساسية، بحسب صحيفة لوفيجارو، كانت هي الأساس في الحكم الذي يراه الرئيس الفرنسي الأسبق قاسيًا وصدر بدافع الكراهية، حيث فسرت المحكمة؛ أن ساركوزي كان في خريف عام 2005 وحتى النصف الأول من عام 2006، متأكدًا من حصوله على الدعم المالي من الحزب في عام 2007. ذلك الأمر، وفقًا للمحكمة، يفسر الخطوات المتخذة منه للحصول على تمويل سري للانتخابات الرئاسية، حيث تشكل المقابلات التي أجريت في ليبيا عام 2005 بين كلود حيان وبريس هورتفو - رجال ساركوزي- ، وبين عبد الله السنوسي - الرجل الثاني في نظام معمر القذافي- جوهر الأسباب التي أدت إلى إدانة نيكولا ساركوزي بالتآمر لعقد صفقة فساد. وأكدت المحكمة؛ أن نيكولا ساركوزي بصفته وزيرًا للداخلية، سمح لأقرب مُعاونيه وصديقه، بلقاء الرجل الثاني في النظام الليبي، في ظروفٍ من السرية التامة، وكلفهم بالعمل على محاولة الحصول على دعم مالي لتمويل حملته الانتخابية، مقابل الوعد برفع مذكرة التوقيف الصادرة بحق عبد الله السنوسي. وعلى الرغم من عدم وجود ما يتعلق بوجود التزام من جانب ساركوزي بدراسة تبرئة السنوسي، أو اتخاذ إجراء إيجابي مقابل التمويل، لا يبطل وفقا للقضاة حقيقة تقديم وعود في هذا الشأن، حتى وإن كانت غير قابلة للتحقيق من الناحية القضائية بسبب وضعه الجنائي الصعب. تدفقات مالية وكشف التحقيق عن تدفقات مالية بغرض تمويل الحملة، إلا أن المحكمة لم تستطع إثبات أن الأموال المرسلة من ليبيا، قد وصلت في نهاية المطاف إلى الحملة الانتخابية أم لا، ومع ذلك تأكدت من أن دفاتر كبار الشخصيات الليبية، قد أرسل عبرها الأموال بهدف تمويل الحملة الانتخابية لنيكولا ساركوزي، وفي إطار زمني متوافق مع الحملة، وفي نهاية الحملة، بقي 35 ألف يورو، لم يُقدّم أى تفسير مقنع لأصلها. لذلك، كانت الالتزامات التي تم التعهد بها ردًا على عرض التمويل كافية لإثبات وجود اتفاق فاسد - بحسب وسائل الإعلام الفرنسية- بغض النظر عما إذا لم يتم الحصول على أي مبلغ في النهاية، وهي في القانون الفرنسي تسمى جريمة الارتباط الإجرامي، والتي يعاقب عليها بالسجن لمدة عشر سنوات، وهي الحد الأقصى في المسائل الجنائية. ولتبرير الحكم، أكدت المحكمة أن هذه كانت أفعالا ذات خطورة استثنائية، ومن المرجح أن تقوض ثقة المواطنين في أولئك الذين يمثلونهم والذين من المفترض أن يتصرفوا لصالح المصلحة العامة، ولكن أيضا لصالح مؤسسات الجمهورية ذاتها، ولكن ذلك التبرير كان بالنسبة لمحامي الرئيس السابق المتهم غموضا وإذلالا. وفي رده على الحكم، يرى الرئيس الأسبق، أن حجم الموارد التي سخّرها قضاة التحقيق والنيابة العامة خلال هذه السنوات الاثنتى عشرة لإثبات إدانته بأي ثمن أمر لافت للسخرية، حيث طلبت المحكمة نحو خمسين طلبًا دوليًا، ومئات جلسات الاستماع واحتجاز لدى الشرطة، وعمليات تفتيش، وتسعة أشهر من التنصت على هواتف رئيس سابق، والمراقبة الدقيقة لأصول أبنائه وزوجته وتركة والدته. وأكد ساركوزي؛ أن هذا الحكم، يُمثّل انهيارًا شبه كامل للمحاكمة، متهمًا بوجود ما يسمى بالمؤامرة الجنائية، لا تستند إلى أي دليل يُذكر، حيث تعود الوقائع إلى 20 عامًا، وقد بُرء من 3 من أصل 4 جرائم اتُهم بها، وحضر جميع جلسات المحكمة التي استُدعي إليها، وظل على منصة الشهود لأكثر من 30 ساعة. وحول زيارته إلى ليبيا، برر زيارته إلى هناك بصفته وزيرًا للداخلية لمعالجة قضايا الأمن والهجرة؛ إذ يمرّ 80% من تدفقات الهجرة من افريقيا جنوب الصحراء إلى أوروبا عبرها، وكان من الضروري إقامة تعاون للسيطرة على هذه التدفقات، و لم تكن لها أي علاقة بليبيا حتى انتخابه عام 2007. وأمام ذلك، أكد أنه لا يأمل بأي حال من الأحوال في الحصول على العفو من إيمانويل ماكرون، والذي يتطلب منه أن يتقبل الحكم، وبالتالي يُقرّ بذنبه، إلا أنه لن يعترف أبدا بذنبه - على حد قوله- على شيء لم يفعله، وسيُناضل حتى آخر نفس من أجل الاعتراف بنزاهته، مُنددًا بالمؤامرة التى تحيط بالوثيقة التي تُشكّل أساس الإجراءات، وقال نصًا «: أنا بريء.. ولن أكف عن النضال حتى أحصل على الحقيقة». غضب قضائي ولكن بعد الإدانة، وجّهت انتقادات إعلامية واسعة لتسييس القضاة في فرنسا، طالت حتى سمعة رئيسة المحكمة، ناتالي جافارينو، وفقا لصحيفة «JDD»، التي تلقت رسائل تهديد، وعلى إثر ذلك قدم الاتحاد النقابي للقضاة، بلاغات وفتحت النيابة العامة تحقيقين منفصلين، وأوكلت التحقيقات إلى الوحدة الوطنية لمكافحة الكراهية على الإنترنت. وأدان وزير العدل الفرنسي جيرالد دارمانين الترهيب والتهديدات بالقتل التى تستهدف القضاة الفرنسيين، والتي أكد أنها لا تطاق في ظل الديمقراطية، كما دعا الرئيس الأول لمحكمة استئناف باريس، إلى احترام المؤسسة القضائية واستقلالها، وندد بالتشكيك فى نزاهة القضاء. وأعرب القضاة في بيان لهم عن قلقهم العميق إزاء انتشار رسائل على مواقع التواصل الاجتماعي تتضمن هجمات شخصية وتهديدات بالقتل تستهدف قضاة المحكمة الجنائية، في دولة ديمقراطية يحكمها القانون، حيث لا يجوز تحت أي ظرف من الظروف التعبير عن انتقاد قرار المحكمة من خلال التهديدات. وقالت النيابة العامة؛ بإن تهديد شخص في منصب سلطة عامة وتعريضه لخطر الإضرار بشخصه أو ممتلكاته يعد جريمة تصل عقوبتها إلى السجن لمدة 5 سنوات و75 ألف يورو، وخلصت إلى أن في أي مجتمع ديمقراطي، يظل النقاش القضائي محصورًا بالإجراءات الجنائية، والاستئناف هو الوسيلة المشروعة للطعن في قرار المحكمة، أما حرية التعبير، بما في ذلك عبر الإنترنت، محدودة بسبب الخطر الذي تشكله على الناس. ووصف محامي نيكولا ساركوزي، الحكم بأنه غامض وغير مفهوم، وهناك رغبة في إذلال رئيس الدولة الأسبق، وأن إدانته لم تثبت والقرار غير مُستند إلى القانون، وأنه من أصل أربع جرائم، حصلوا على ثلاثة منها تبرئة، ومع ذلك حُكم عليه بالسجن خمس سنوات، على الرغم من أن المحكمة الجنائية نفسها التي برأت فرانسوا بايرو عام 2024 لعدم كفاية الأدلة، تُدين نيكولا ساركوزي بناءً على فرضية. السجن والاحتجاز ومن المنتظر أن يبقى الرئيس الفرنسى الأسبق طليقا خلال الأيام المقبلة، حتى وقت احتجازه يوم الاثنين 13 أكتوبر، عقب استجوابه من قِبل قاضي تنفيذ الأحكام فى مكتب المدعي العام المالي؛ حيث سيُتاح له الوقت للعودة إلى منزله للاستعداد قبل دخول السجن، في منطقة إيل دو فرانس. وسيتم تحديد مكان الاحتجاز بناءً على عدة معايير، وفقا لصحيفة la dépêche، والتي من أهمها الخطورة والحفاظ على الروابط العائلية، الرعاية الطبية، ومن المرجح أن يلحق بسجن سانتيه، والذي يقع السجن في الدائرة الرابعة عشرة بباريس، حيث يمكن أن يوضع في الجناح المعرض للخطر، حيث سُجن سجناء مشهورون آخرون سابقا هناك. ووفقا للقانون، وحتى كرئيس سابق للجمهورية الفرنسية، لا ينبغي أن يحظى نيكولا ساركوزي بمعاملة تفضيلية، حيث لا غرف زيارات، ولا مكالمات هاتفية مع أحبائه، وسيتمكن من شراء السلع التي تُباع في السجن مثل غيره من السجناء. ومن المتوقع أن يقدم نيكولا ساركوزي، فور سجنه، طلبا للإفراج عنه تحت إشراف قضائي صارم، لا سيما نظرا لعمره البالغ 70 عاما، وذلك بموجب المادة 729 من قانون الإجراءات الجنائية، وسيكون أمام غرفة التحقيق في محكمة الاستئناف بباريس عشرة أيام للبت فى الأمر. اقرأ أيضا: محكمة فرنسية تقضي بسجن ساركوزي لمدة عام