لم تكن صورة الطفل الفلسطيني «جدوع»؛ الذي يصرخ وهو يحمل شقيقه الأصغر مجرد مشهد عابر في نشرات الأخبار، بل كانت جرحًا مفتوحًا في قلب الإنسانية.. عينان صغيرتان تملؤهما الدموع، جسد نحيل يغطيه الغبار، وذراعان ضعيفتان تحتضنان شقيقًا ملطخ بالدماء، كأنهما آخر حصن من حصون الحياة في مواجهة الموت.. ركض الطفل وسط الركام بلا وجهة، سوى البحث عن يد آمنة، عن وطن يحتضنه. المشهد الذي لن ينساه العالم، لم يكن مشهدا عابرا بل أصبح رمزا لمعاناة آلاف الأطفال الذين وجدوا أنفسهم فجأة وجهًا لوجه مع الموت.. عين الطفل كانتا أوسع من طفولته، وصوته المبحوح كان يختصر حكاية شعب بأكمله، يبحث عن يد تنتشله من جحيم لا يليق ببراءة الصغار. في لحظة التقطت الكاميرات فيها وجع الإنسانية، شاهد العالم طفلاً يركض حافي القدمين، يحمل أخاه كأنما يحمل الدنيا كلها على ذراعيه النحيلتين، الغبار يعلو وجهه، الدموع تختلط بتراب الأرض والدم، والصراخ يعلو على أصوات القصف. صورة كهذه لا يمكن أن تُنسى، لأنها تحولت إلى أيقونة تختصر ما لا تستطيع آلاف الكلمات أن تقوله. هذا المشهد الذي أبكى الملايين وهز ضمير العالم، لم يتوقف عند حدود الصورة.. مصر التي طالما حملت هم القضية الفلسطينية في قلبها، لم تترك الطفل جدوع وأسرته يواجهون مصيرهم وحدهم، بتوجيهات مباشرة من الرئيس عبد الفتاح السيسي، تحركت اللجنة المصرية المعنية بسرعة، لتؤمّن إنقاذ الطفل وأسرته بالكامل، ونقلهم إلى مخيمات مصرية آمنة، حيث وجدوا الرعاية الطبية والدعم النفسي والاجتماعي. في المخيم المصري، وبين أيادٍ تحمل الرحمة لا السلاح، جلس الطفلان للمرة الأولى بعد الكارثة في أمان؛ أحدهما ما زال يضم أخاه إلى صدره، وكأن الخوف لم يغادر قلبه بعد، لكن في عيونهما بريق جديد.. بريق الاطمئنان.. لم يعد هناك دخان أسود يغطي السماء، ولا قصف يهز الأرض تحت أقدامهم.. أصبحوا الآن في حضن بلد لا يعرف سوى أن يكون سندًا وعونًا لإخوته.. الآن يعرفان معنى أن يجد الإنسان وطنًا ثانيًا يفتح له ذراعيه، لا ليسأله عن اسمه أو أصله، بل ليقول له ببساطة: «أنت في أمان». هذه اللفتة الإنسانية لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة، فمنذ عقود، كانت مصر ولا تزال خط الدفاع الأول عن الشعب الفلسطيني، تفتح معابرها لجرحاه، ومستشفياتها لعلاجه، وتبذل جهودًا مضنية في إعادة الإعمار ووقف نزيف الدم.. مصر التي قادت مبادرات لوقف إطلاق النار مرارًا، هي نفسها التي تفتح قلبها اليوم لطفلين فقدا معنى الأمان. قصة «جدوع» وشقيقه ليست مجرد حكاية إنقاذ عابرة، بل رمز لمعنى أكبر؛ «الإنسانية الحقيقية تُقاس بالقدرة على حماية حياة بريئة. وأن مصر، أم الدنيا، لم ولن تتخلى عن دورها التاريخي والإنساني تجاه أشقائها، في فلسطين أو غيرها». سيظل العالم يتذكر صورة الطفل الفلسطيني وهو يصرخ وسط الركام، لكن الصورة الأجمل التي ستبقى محفورة في الذاكرة، هي صورته اليوم في حضن مصر.. يبتسم لأول مرة بعد أن ظن أن الابتسامة لن تعود.