إستبرق أحمد نقفُ طوابيرَ متوازية، لا نعرفُ وجهتَنا، نثقُ فقط بتقلُّص خياراتنا، وأننا مراقبون. قالوا لنا: ستمرحون. أدهشنا هذا الهامش من الحرية وأخافنا. نقيمُ فى مبنى 71 أقدم المبانى الكالحة، بممراته الباردة، غرفه الضيقة، سجناء بتهمٍ متفاوتة. على تَلة بعيدة عنا، نطلُّ على مبنًى مختلف، يكبر ويكبر ويكبر، تزداد قببُه الملونة، وتعلو داخله قضبان أفعوانية، برجٌ مخروطى ملوَّن، حبال متشابكة، ومبانٍ عجيبة تُبهرنا. أبلغونا: سيتمُّ عملُ رحلات إليه قبل افتتاحه، وزيارات أثناء خلوه من الجمهور. سعدنا، الخروج لا تجاوره متعة. أكملوا: فعلَ المديرُ الكثيرَ من الاجتماعات الإدارية، حدَّث رُتبًا عالية للحصول على التصريحات الملائمة للقيام بهذه الخطوة. فهمنا أنه لا يجب علينا التفكير بالمخالفة. انتباه... طابورُنا منظم، أشكالنا متشابهة،الملابس ذاتها، الشعر المقصوص، العيون القلقة، والجانب الأيسر الأكثر ضعفًا، إذ يبطش المديرُ بنا بيده العسراء، تاركًا إيانا معطوبى القلوب. انتباه... السيد المدير يقرأ 1984 السيد المدير المشكوك فى عكاز شهادته الجامعية فى علم النفس، مقرونة بعسكريته وادَّعائه الثقافة، منحه خليطُ امتيازاته القفزات الرشيقة فى الترقى. وشوشت الشفاه بلعبته المأفونة: ما يقرؤه يوقد مزاجه. ففى الشهر الماضى «الجريمة والعقاب» الأهوال اتجهت إلى عنبر السَّارقين والقتلة، أما كتابه المفضل فكان «تاريخ التعذيب» لبرنهاردت ج. هروود، يراه مرجعًا، يسرد منه وساخات أساليب المفترسين لترهيبنا. تجتاحنا عقاباتُه الاعتيادية أثناء حفلات التفتيش، أو غرفة الطعام الجماعية العطنة، أو عبر الاستدعاءات إلى مكتبه، أما ابتكاراتُهُ فيمارسُها من غرفٍ بعيدةٍ، ولا يتوقف الواشون عن إمداده بالأسباب. ظهر الفطرُ فى الصحراء واكتمل، حامت أحاديث حول هدفه فى «اللهو والبهجة»، تداولنا اسم المبنى الجديد «المدينة الترفيهية». أيقظونا، نمشى بأصفادنا الضيقة نعرف اتجاهنا، ونخاف، نتعرق أكثر. ركبنا ثلاث عربات بطيئة، تتهادى على الطريق. منذ انتهى من كتاب 1984، تلبَّسه وجه الصمت الطويل يمرُّ على عنابرنا واجمًا، يدخل زنزاناتنا، يطيل النظر إلينا متأملًا ومفكرًا ويخرج متكدرًا. بدأت لاحقًا الزياراتُ المكوكية للمسئولين الكبار، ازداد توجسى حول ما يُرتِّبه لنا. وصلنا... سور يكشف عن مبنى رابض، خطوط عرضية، يتعاونان البرتقالى والأبيض المنعشان على خلق الغبطة، تُطالعنا قبةٌ عظيمةٌ فى الداخل، سمعنا صوتَهُ الزَّاعق يأمر: الأرقام التى سأنادى أصحابَها، تنزل من العربات: 5، 22، 108، 200، 33، 24، 48. أُخذت بالألوان الزاهية، تنتزع قتامة نفسى نادَوْا على رقمى مرارًا، ذاهلًا لم أسمعهم، خطأ لا يغتفر فى دائرة سهوى. جاء بشاربه الكث وعينيه الشرستين، نظر إلى طويلًا وبصوته المخيف صاح: 24. ارتجفت، أجبته بنعم متقطعة ولاهثة. التفت إليهم: انتباه: الأرقام السابقة، كلابى الطيبة. سمعت بحماستكم الكبيرة لرؤية المبنى، أَرِق اثنان منكم بالأمس خوفًا ألَّا أصحبهما، لذا، يسعدُنى إخباركم أنَّ الرحلة انتهت لكم جميعًا، أطيلوا النظر إلى البوابة فذلك ما سترونه فقط. عودوا الآن إلى العربات. ساروا بأكتف محنية باتجاه طريقٍ امتدَّ. أزدادُ تعرُّقًا. انتباه: 71، 12، 60، 83، 68، 30، 92، 220، 1000: كلابى الضَّالة. لا أعرف متى أصبحتم جاحدين؟ ولا كيف يا أولاد الزِّنى تخونون سيدكم؟ من سمح لكم بالتَّفكير؟ ضاحكًا قال: أستغربُ اعتقادَكم بإمكانية إخفاء خطتكم الغبية. كلُّ حرف، أو رأى طرح، كلُّ وقاحةٍ شجعت على الفرار وصلت إلىَّ. بوجهٍ حائر أكَّد قائلًا: أنا، يتمُّ استغفالى؟ مهدت رحلة لم تحلموا بها، حاولتُ إسعادَكم فأُستقبل بالعصيان ونكران الجميل؟ كيف يا سفلة تستغلون هديتى للهروب؟ حسنًا يا كلابى الحمقاء، سأظلُّ كريمًا وأمدُّكم يا أوغاد بمفاجأتين: الأولى: أن أعيدكم إلى واقعكم الدنىء. نزل من العربة الثالثة، حرَّاس أشداء، بوجوهٍ تميِّز كراهيتها، هدوءٍ أمرهم: ابدؤوا. شرعت حفلة الرَّفس، الرَّكل، والصَّعق بالعصى المُكهربة، حُمى التَّكسير والوجع استمرت ترسم خرائطها، انهار البعض نائحًا لضياع الحلم والمهانة، وتجلَّد البعض غاضبًا لِخَيبته. فجأة اخترقتنا صيحة: انتباه: 24. نظروا إلىَّ، اقتربَ، شعرت بألمِ مثانتى. وضع ذراعه على كتفى قائلًا: نتيجةً لما قدَّمته، سأجعلُ الأولويةَ فى الدُّخول واللعب لك أيها الواشى. مذعورًا لكشفِه خداعى إيَّاهم، دفعنى حراسٌ تفوح منهم زناخة القسوة. أدخلُ مُتعثرًا المدينة الترفيهية، بخطًى مذعورة، مُترددة، مُلتفتًا تجاه بؤرة كلاب مسعورة، دائرة عيون تبرز من وجوه نهشتها أنيابُ الهزيمة، تنبض بالكراهية والبطش. أخذونى إلى كهفها الحالك، عرفت أن تشكيك البعض بزيف شهادتِهِ كذبة حقيرة. أجلسونى، قيَّدونى. برهافة الخوف، سمعت تكَّات تشغيل اللعبة، المعنونة ب«سندباد» الرحالة، فى العربة الصَّغيرة، المرسومة عليها وجوه كارتونية مُتوعدة، أكزُّ على أسنانى، راغبًا بقضم أظافرى، فأسمع صريرها مُقتربًا من فوهة الظلام. عرفت أنَّ هذه اللعبة هى الغرفة 101 فى كتاب 1984، تهبط فيها أقسى رهابات وعذابات السجين، مواجهًا أكثر مخاوفه فزعًا، لا يعرفُها إلا أقرب الرِّفاق، فتأكدت أنَّ صاحبى فى زنزانتى الضَّيقة، واشٍ آخر. انتباه. مقيدًا فى العربة، يُواجهنى فكُّ مغارةٍ بالسَّواد الذى أخشاه، أرتجفُ، ببطء شديد، ندلفُ، ننغمسُ فى زوايا خرساء، تبزغ شخصيات كارتونية، تقفُ ضاحكةً، تثب، تسقط من أعلى صارخةً يُواجهها هلع وجهى الدامع، أسمع زئير خوفى فى صدرى يزدادُ ضجيجًا، يتوالى مسيرنا ما بين بقعٍ داكنة وزاويا ضوء تهذرُ بالتفاصيل، يزدادُ ظهور الإعتام، يترددُ نحيبى قبالة أفواه كهوفٍ تمضغ طمأنينتى. أطبقت أصابع الذُّعر علىَّ ما إن سكنت العربة، أفلتت حنجرتى صرخة، حاولت فكَّ يدي، ومنسوب رعبى يرتفع إزاء همسات متداخلة، تدنو أضواءُ مصابيح كهربائية. وكانت مفاجأتُهُ الثَّانية... وجدتنى أمام وجوه زملائى السجناء الذين غرَّرت بهم، أمسكونى، خارت مثانتى، وانهالت قبضاتُهم. سأخبرُكم أنَّ ذلك أصبح العام الأثير: عام: تمَّ نقل المدير بسبب هذا المشهد. عام: افتتاح المدينة الترفيهية. عام: خلّدت فيه صرختى الشهيرة فى اللعبة، تك تك تك تأتى العربة الصغيرة، تندفع، تتباطأ عند كل بقعة مُعتمة، ضوء يكشف عن جبل دنانير ذهبية لامعة، أو شخصية معصوبة العين الواحدة لأحد اللصوص، يحركها زنبرك معروف التوقيت، فتثِب إلى الأمام بوجهها المتوعِّد، بعدها... وحدهم المصابون برهاب الظلام مثلى، عند وقوف المركبة فى زاوية دامسة، تُباغتهم مخاوفُهُم، يُبصرون مصابيح كهربائية ساطعة وهمسات تردد كلمة «الواشى"، فتمتزج صرختُهُ طويلًا مع صرختى اللانهائية، التى أديتُها لزملائى أثناء هروبى إلى السماء.