«نحن بشر نرتجف، نحمل أسماء وأحلامًا وأطفالًا ينتظرون ماءً أو رغيفًا أو حضنًا آمنا. هذا المكان- غزة يُعيد تعريف الموت كل يوم، ويعيد تعريف الصمت أيضًا». الاثنين: أقرأ كثيرًا يوميات وكتابات ترصد أهوالًا مر بها البشر فى مراحل مختلفة من التاريخ الإنساني. ألاحظ ما يربط بينها، وأنتبه إلى الاختلافات فيها، فيتضاعف إيمانى بأنه حتى لو تشابهت الظروف، يتفاعل البشر معها ويرونها كل على طريقته. وأفكر فى أن الإجابة عن أسئلة من قبيل: ما الذى يعنيه العيش فى مدينة مدمرة؟ كيف تتفاعل العين مع ما يحيط بها من تفاصيل الخراب؟ تتنوع لكنها جميعًا تصب فى مجرى واحد رئيسى هو مجرى المعاناة الإنسانية، وأخلص إلى أن البشر لا يتعلمون من تجاربهم السابقة، وإلّا لما سمحوا بتكرار الفظاعات المرة تلو الأخرى. على الفور أستدعى غزة التى لا تتعرض لمجرد حرب أو احتلال، بل لإبادة بدأت منذ النكبة، وما تزال دائرة، لتشتد وتيرتها خلال العامين الأخيرين. أتابع الصور الواردة من هناك، أرصد تعبيرات البشر فيها، أدقق فى الخراب الممتد حولهم، وفى علامات الإنهاك البادية عليهم والتصميم المرتسم - رغمًا عنها- على محياهم وفى نظراتهم، وأتذكر بيت محمود درويش: «وهذا الصمت يأتينا سهامًا». فالصمت العالمي، فى هذه الحالة، ليس صمتًا بل سهام موجهة إلى صدر الفلسطينيين. أقرأ أيضًا ما يكتبه كُتَّاب غزة من داخلها، وأتوقف تحديدًا أمام يوميات الكاتب الفلسطينى يسرى الغول، الذى يدوِّن ما يتعرض له القطاع وأهله، ويحيل كلماته إلى شهادات حيَّة تقف فى وجه الإبادة، حتى حين يوثق تفاصيل يومية بسيطة أو يشاركنا همساته وصرخاته. كتب يسرى الغول مؤخرًا: «الحياة هنا تُقاس بالصدف، صدفة تنجو، وصدفة تُقتَل. الجندى الذى يضغط على زر المدفع أو يُسيِّر طائرة فى السماء لا يرى وجهى ولا يعرف مكانتى الاجتماعية، فقط يرانى مجرد هدف يتحرك، فنحن كلنا، كلنا نحن بشر نرتجف، نحمل أسماء وأحلامًا وأطفالًا ينتظرون ماءً أو رغيفًا أو حضنًا آمنا. هذا المكان- غزة يُعيد تعريف الموت كل يوم، ويعيد تعريف الصمت أيضًا». غبار التفجير الثلاثاء: كثيرًا ما تساءلت عما يشعر به الجنود المشاركون فى عدوان على أبرياء: كيف يبررون الأمر لأنفسهم؟ وهل يداخلهم إحساس بالذنب؟ وفى أحد المهرجانات الأدبية الأوروبية، قبل سنوات، قابلت كاتبًا وفنانًا تشكيليا قاتلَ، خلال مراهقته، فى حرب أهلية بعيدة. كان يتحدث عن الألوان والضوء والظلال، وكعادتى فى توجيه أسئلة غير مناسبة وغير متوقعة، سألته: هل قتلت أحدًا من قبل؛ أعنى فى تلك الحرب التى حاربت فيها؟ غامت نظرته قليلاً قبل أن يجيب: وجهًا لوجه كما نجلس الآن؟ لا، بالطبع لا. لكننى شاركت فى تدمير أحياء كاملة، وبالتأكيد كان هناك ضحايا. طغى دخان التفجير وغباره فجأة على كلماته. لاحظت أنه كان يتكلم كما لو أن الأمر لا يخصه، ولا يعنيه، أو كأن هذه الحرب لم تقع قط، فخطر لى أن الحروب وسيلة الجبناء لارتكاب ما لا يقدرون عليه من عنف وجرائم وجهاً لوجه، طريقتهم لتحويل البشر إلى أرقام وكلمات بلا عيون ترمقهم لحظة القتل، وذكرنى هذا بتفصيلة قرأتها قبل سنوات فى سيرة الشاعر الأمريكى من أصل صربى تشارلز سيميك؛ «ذبابة فى الحساء» (صادرة عن الكتب خان، بترجمة إيمان مرسال)، فهو الذى عاش طفولته فى بلجراد خلال الحرب العالمية الثانية، وعايش تدميرها وقصفها دون فهم منه لأبعاده، التقى بعد سنوات عديدة، فى إحدى الحانات، بطيار من قوات الحلفاء كان قد شارك فى قصف مدن من بينها بلجراد، وحكى له الرجل أنه فى رحلات العودة من الغارات الجوية كان يحدث أن يلقى الطيارون ما تبقى معهم من ذخيرة، على مدينة ما، كى لا يعودوا بها. هكذا بكل بساطة! أدب الدمار الأربعاء: فى الكتاب نفسه يحكى سيميك عن طفولته المحاطة بالقصف والحرب، حيث الموت حدث يومي، والخراب فى كل مكان، والقصف لا يكاد يتوقف، لكنه يرصد بعين الشاعر ما لا يراه الآخرون عادة فى كتاباتهم عن فترات مماثلة. إذ يقدم وجهًا آخر للحرب من وجهة نظر الأطفال على الأقل، فهم كما يبدون فى سيرته هذه، يرونها فرصة مثالية لتحطم القيود التقليدية وشيوع درجة من الفوضى تتيح لهم مساحة أكبر للّهو. يكتب سيميك: «وفر لنا زمن الحرب ملاهى للرياضة وزحاليق وبيوتًا خشبية وحصونًا ومتاهات يمكن العثور عليها فى ذلك الخراب عبر الشارع. كان هناك جزء قد تبقى من الدرج، كنا نصعد بين الحطام وفجأة تظهر السماء!». بدوره يقدم كتاب «امرأة فى برلين.. ثمانية أسابيع فى مدينة محتلة»، الصادر عن منشورات المتوسط بترجمة ميادة خليل، صورة أخرى للحرب وما يتلو الهزيمة من السقوط تحت الاحتلال، لكنها صورة قاتمة تُظهِر ما فى النفس البشرية من ضعف وجبن وقسوة. نُشِر هذا الكتاب بالإنجليزية فى الولاياتالمتحدةالأمريكية عام 1954، ولم تُعرَف هوية كاتبته مارتا هيلّر سوى عام 2003، بعد وفاتها بسنتين. فى كتابها تحكى هيلّر عن برلين بعد احتلال الروس لها، وكيف عانت النساء تحديدًا ويلات جحيمية على يد الجنود الروس، فتبدو لنا المدينة فضاءً خربًا يتحايل أهلها على واقعهم المهين وعلى الجوع والإذلال. ولعل أهم ما يميز «امرأة فى برلين» أنه لا يزيف ولا يجمِّل، والأهم أنه لا يسوق تبريرات لجبن البشر حين يواجهون ما لا قدرة لهم على تحمله. لغة الفجيعة الخميس: ترتبط النكبة فى ذاكرتى بالمشي. ما إن أقرأ الكلمة حتى تتداعى إلى ذهنى صور عديدة وثقت نزوح الفلسطينيين من أراضيهم. صور يخيم عليها الصمت والوجوم والألم، وانتشر ما يشبهها مؤخرًا، مع اضطرار جيل جديد من الغزيين للنزوح من موضع لآخر داخل القطاع، بسبب تواصل الهجمات الإسرائيلية عليهم. أتأمل الصور الحديثة، فأتيقن من أن ليس كل المشى سواء، بل لا خطوة تشبه أخرى. كلٌّ منها حرفٌ فريدٌ له معناه ومدلوله وحمولته النفسية، وهى معًا تشكِّل سرديات تتنوع بتنوع حالتنا المزاجية والظروف المحيطة بنا خلال السير. المشى لغة من نوعٍ ما، قد تكون منغلقة على نفسها، ومن الصعب فك أكوادها إلّا على الشخص السائر، لكنها لغة مكتملة وإن كانت تميل إلى الصمت الذى اعتبره صمويل بيكيت لغتنا الأم، والذى يتبدى أكثر عند الفجيعة، ويقترن عادةً بمن تعرضوا لهولٍ مفزعٍ أو نجوا من كارثة قضت على كل مَن سواهم. فى كثير من الأدبيات والشهادات المكتوبة عن الكوارث يُلاحَظ تخييم الصمت المقترن بالذهول على الناجين منها. فمسيراتهم تكاد تتشابه، إذ يزهدون فى الكلام ويحل محله السكوت أو الصراخ والهمهمات المبهمة، كأنهم فقدوا ملكاتهم اللغوية وقدرتهم على تكوين جمل مفهومة. قد يسيرون فى جماعة تفاديًا لاتخاذ قرار منفرد، فيتبع كل فرد أقرب مجموعة يبدو عليها مسحة من تنظيم ما. قد يغلب عليهم أيضًا عدم القدرة على اختيار أفضل الخيارات المتاحة، فقد يتركون طريقًا معبدًا ليسيروا فى آخر وعر وغير ممهد، مع التركيز على تفاصيل غريبة يتشاغل بها عقلهم عن مواجهة رعب لحظتهم الحاضرة. قرأت هذا فى شهادات الناجين من ضرب هيروشيما ونجازاكى على سبيل المثال، ومن وقتها تغيرت نظرتى تمامًا إلى مسيرات الناجين والنازحين والسائرين على غير هدى هربًا بحياتهم.