حين يخرج القلم عن صمته ليمزق جدار الصمت، ويبوح بما ظنه البعض منسيًا، فهو يكتب أول شطر فى انتصاره، هكذا بدا لى قلم زميلى إيهاب الحضرى، وهو يتوّج بجائزة نقابة الصحفيين للصحافة الثقافية عن تحقيقه «تاريخ تحت القصف» المنشور فى جريدتنا الغراء «الأخبار». فوزه لم يكن مجرد تكريم لجهد مهنى ومعرفى، بل اعتراف بقدرة الكلمة حين تُكتب بقلم رشيق، وأسلوب أدبى ينساب فى وجدان القارئ، ليحوّل الحقائق الجامدة إلى رحلة سردية آسرة، تمسك بيد القارئ منذ السطر الأول، لتقوده حتى يبلغ عمق القضية. سعادتى بهذا الفوز ليست فقط سعادة بزميلى العزيز، بل احتفاء بالصحافة حين تستعيد جوهرها كفعل إبداعى، وبجريدتنا التى آوت هذا النص فصار شاهدًا على أن الكلمة الصادقة لا تزال قادرة على أن تترك أثرًا يتجاوز حدود الورق.. ويبقى السؤال: هل يجوز أن يُبكى على الحجر فيما الدماء تسيل؟ سؤال يبدو قاسيًا، لكنه يكشف عن وجه آخر للجريمة، فمنذ نشأة هذا الكيان، لم يتوقف عن نهب الأرض وتزييف التاريخ، جولات حفائر محمومة لعقود، ولا أثر لوجوده المزعوم، فيما تتحدث الشواهد جميعها عن الفلسطينيين القدماء، وعن جذورهم الممتدة فى التاريخ. فشل التزييف، فانتقل إلى المحو، وبينما ينشغل العالم بمجازر الأرواح، تحوّلت الصواريخ إلى أدوات مسحٍ للتاريخ، تدمير مُنظم لذاكرة الأرض ليطوى العدو الماضى، كما يحاول محو الحاضر، لتكتمل الإبادة: جسدًا وروحًا، حجرًا وبشرًا. الأرقام تكشف حجم الكارثة.. 215 موقعًا ومبنى تحوّلت إلى ركام أو غنيمة فى متاحف تل أبيب، كلها وقعت تحت رحمة قصف «غير عشوائى»، بل منهجية لتدمير كل ما يثبت الهوية الفلسطينية، والعالم الذى تحرك بقوة فى وجه طالبان بعد تدمير تمثالى «بوذا» يقف الآن صامتًا أمام تدمير مئات المواقع الأثرية فى غزة. صمت العالم ليس تواطؤًا فحسب، بل شراكة فى الجريمة، فكل حجر يُدمر، فقدان لجزء من التراث الإنسانى المشترك، لكن يبدو أن قدسية التراث تفقد قيمتها حين يكون فلسطينيًا، هنا يصم العالم أذنيه ويغلق عينيه، تاركًا غزة تواجه موت الأحياء وموت الذاكرة. استراتيجية مُحكمة، فحين يُمحى التراث تُمحى الأدلة، وتُصبح الأرض جاهزة لإعادة التشكيل، ولا يبقى سوى ركام يروى: هنا كانت حضارة.. والعالم كان شاهدًا صامتًا على قتلها. إنها جريمة حضارية لا تقل فداحة عن مجازر الدم.