استضاف مبنى "قنصلية" فى وسط القاهرة مؤخرا حفل إطلاق الطبعة المصرية من رواية "غيبة مى" للكاتبة اللبنانية نجوى بركات. وقالت نجوى، فى الحفل الذى نظمته دار «تنمية» ناشرة العمل، إنها دخلت فى وضعيات مختلفة مع شخصياتها الروائية، خاصة بعد صدور روايتها «مستر نون». فبعد أن كانت مشغولة بالجلاد، وبالسؤال عن كيف يتحول إنسان تربّى فى أسرة طبيعية وتلقى تعليماً عادياً إلى قاتل أو معذّب، أصبحت الآن أكثر اهتماما بالضحية.. فى أعمالها الأولى وحتى فترة معينة من حياتها كانت تظن أن العنف عادة ما يأتى من الخارج، وأنه من الممكن صده، وبالتالى نجاة الإنسان، إلا أنها بمرور الوقت والتجربة بدأت تتشكك فى هذه الجزئية. تقول: «كنت أظن فى الماضى أن الإنسان يمكنه إحاطة نفسه بسور من الثقافة، والفن، والقراءة، والكتابة، والحب أيضا، وبهذا يمكن أن ينجو، لكن بمرور الوقت ومع تراكم التجربة أصبح لدىَّ سؤال وجودى، والإجابة عنه كانت صعبة، وهو يتمحور حول مفهوم القسوة». أشارت إلى أنها تعاملت كثيرا مع هذا المفهوم فى كتاباتها، وفى كل مرة كان يتهيأ لها أن هناك مجموعة من الناس لو وُضِعوا فى موقف معين، يمكن أن يُظهِروا كمية كبيرة من العنف المقابل، تنتهى بتغير الظروف، لكن مع ما جرى فى العالم العربى خلال السنوات الأخيرة، سواء فى بيروت، أو سوريا، أو فلسطين، باتت ترى أن مقدار العنف والقسوة صار عصيا على الاستيعاب، نتيجة لذلك «صار فينا شىء معطوب إلى الأبد». لذا فإن كتابتها لم يكن من الطبيعى أن تظل كما هى، باتت بالتالى تميل إلى تصوير شخصيات «شبحية»أو «مفككة»، شخصيات تتحرك فى الواقع دون أن تكون ضائعة أو غائبة عن الوعى، لكنها عاجزة عن استيعاب ما يحدث من حولها، شخصيات تحاول التعبير عن ذلك الانكسار العميق الذى جرى. طموح شعرى من جانبه قال الناقد الدكتور محمد بدوى إن نجوى بركات حققت إنجازاً كبيراً فى رواية «غيبة مى». وأضاف: «نشعر أننا أمام كاتبة لها عالمها ورؤيتها وحدود لفضائها الذى تسيره والذى لا يختلط مع أى فضاء آخر أو يتقاطع معه. وهو أمر يحدث حين يصل الروائى إلى منطقة المَكر. المكر الذى يتجلى فى الرواية أكثر من غيره من الفنون الأخرى. فالشاعر مثلًا يفكر فى العالم شعرياً ويصوغه بصوته الواحد، وغالبا إذا زادت الصنعة أو المكر يعتبر عيباً فى الشعر، أو هكذا أعتبر. بينما الرواية هى الفن الأنانى، لأنه بمرور الوقت اغتصب أراضى جديدة من الدراما والشعر؛ لذلك أرى أن الرواية هى فن الدنيا الحديثة ». وأكد بدوى أن أكثر ما شده فى الرواية هو أن الفضاء الذى يتحرك فيه أبطالها وشخوصها محدود، وهى نقطة ليس من السهل تحقيقها خاصة مع مثل هذا النمط من الكتابات، لأن الكاتبة احتاجت للحفر فى شخوص روايتها «لذلك نحن هنا لا نسأل ماذا سيحدث حين نقرأ؟ وما الذى سيحدث؟ ولكن السؤال هو: كيف حدث ما حدث؟ وكيف يمكن كتابة ما حدث؟ وكيف يمكن تخطيط الأحداث؟» منتهياً إلى وصف الرواية بأنها «ذات طموح شعرى». فضاء محدود أشاد بدوى بلغة الرواية، ورأى أنها لا تنتمى إلى اللغة الروائية التقليدية أو السريعة التى نجدها فى الروايات الشعبية أو البوليسية. فهنا نحن أمام مستوى يمنح اللغة دلالات شعرية، من دون أن يلغى حضور الواقع. فالمرأة فى الرواية تعبّر عن تجربة ذاتية ترتبط بإشكاليات الحب والجسد، لكنها تواجه فى الوقت نفسه التحدى القاسى لتآكل جسدها يوما بعد يوم. حتى فى لحظات العشق يظل النص محتفظا بشاعريته، عبر فضاء ضيق وعالم محدود، حيث تعيش البطلة -امرأة عجوز تزود عن كهفها الخاص- مواجهة معضلات الشيخوخة والوجود وانهيار الجسد، إلى جانب مراجعة الماضى بكل ثقله. أشار بدوى إلى أن الرواية تنقسم إلى ثلاث وحدات سردية كبرى، ويغدو اختيار البطلة عنصرا أساسيا فى خلق الشاعرية التى نشعر بها. فهى ليست امرأة عادية، بل ممثلة وشاعرة أجهضت أحلامها فى الفن والإبداع، كما عاشت قصة حب مريرة تركت أثرها العميق. ومن هنا، يتضح أن وعيها الفنى والشعرى يجعل الواقع اليومى أقل من خيالها. بل إنها تقدم تعريفا للممثل والتمثيل بالغ الرهافة، يضيف بُعدا جديدا للنص. تكمن شاعرية الرواية كما أشار بدوى أيضا فى تداخل صوتين: صوت المؤلف وصوت البطلة، حتى تتلاشى الحدود بينهما. هذا التداخل يتيح للمؤلفة أن تتعامل مع العالم شعريا، فتنقل التفاصيل اليومية إلى مستوى المجاز والرمز، «وهكذا، لا نكون أمام وقائع صلبة بقدر ما نواجه رؤية تنبثق من عين شاعرة. ولعل أهم ما يميز الرواية أن نجوى بركات تحافظ على توازن دقيق بين اللغة فى مجازها الشعرى واللغة فى ماديتها». استعارة كبرى ويستطرد بدوى قائلاً: حين نذكر«شعر الرواية»، قد يتبادر إلى الأذهان فورًا ذلك الأسلوب المعقد والأفكار الحداثية التى شاعت فى النصف الثانى من القرن الماضى فى الكتابة العربية. غير أننا هنا أمام روائية تقتنص الشعر من التفاصيل اليومية، وتكشف عبره عن المناطق المعتمة فى النفس البشرية. ففى الجزء الأول من العمل تتحرك السيدة العجوز الثمانينية داخل فضاء محدود، وهناك يطلّ شبح التهدم وتبدد الجسد، حين يصبح موضوعا للزمن، ويصاب القلب والروح معا بشيخوخة قاسية. تبدو الرواية هنا ذات طابع عدمى نسبيا، إذ تواصل البطلة بجسدها المتهالك محاولة عيش اللحظات الأخيرة كما تخيلتها بعد هزيمتها فى الحب، فتبدو كأنها تدخل فى حالات من الهلوسة. ويتوقف بدوى أيضا عند علاقات البطلة بالآخرين: الأب والزوج والأبناء جميعها علاقات مشوبة بالنقص أو التشويه، ما يعمّق عزلتها ورفضها للعالم. بل إنها ترفض حتى الدخول فى«العلاقة الوالدية» كما يسميها فرويد، وهو ما يجسد غيابها الأول، وفق رؤية بدوى. ويتكرر الغياب فى علاقتها بالمدينة؛فبيروت، التى تظهر كخلفية للفساد والخراب، تعكس أزمتها الداخلية هكذا تتحول المدينة إلى استعارة كبرى: مدينة مكسورة تشبه بطلة ممزقة. ويخلص بدوى إلى أن نجوى بركات، عبر«غيبة مى»، نجحت إلى حد بعيد فى بناء عالمها الخاص، المستقل عن العوالم الأخرى، معلنة بذلك انتماءها الكتابى المميز.