فى إحدى قرى مدينة قليوب محافظة القليوبية، وقفت «ندى» - اسم مستعار - ذات الستة عشر عامًا ترتجف بفستان زفافها الأبيض الذى يبدو أكبر من عمرها، تحمل فوق كتفيها عقد زواج لا يحمل توقيع مأذون رسمى، بل مجرد ورقة عرفية ممهورة بتوقيع محامٍ ومختومة بختم مكتب مجهول الهوية، لم تكن تعلم وقتها أن تلك الورقة التى صفّق لها الأهل والجيران، ستكون فى يوم ما مصدر معاناتها بعدما رفض شريكها الاعتراف بزواجهما وظل يماطل حتى وصل الأمر للتهديدات لها ولذويها. فى هذا التحقيق، تتبعت «الأخبار» انتشار بعض المكاتب والمواقع تحت لوحة «مأذون عرفى»، لبعض المدعين أنهم مأذونون ومحامون يحررون عقود زواج عرفى للقاصرات والنساء دون توثيق رسمى، فى ظل غياب نص قانونى واضح يجرم الزواج غير الموثق سوى للقاصرات، مما يؤدى إلى ضياع الحقوق القانونية والاجتماعية للمرأة والأطفال خاصة فى حالة الطلاق أو إنكار الزواج وكذلك النسب أو الوفاة، تحت شعار «الورقة هتحميك». على الرغم من وجود تشريعات وقوانين تفرض مظلة حماية للمرأة وكذلك لحماية القاصرات تحديدا، لا زال البعض يحاول الالتفاف للتحايل على تلك التشريعات بدعوى - حسن النية- وستر البنت، يشهرون الزواج ويحضرون الشهود ليضفوا الشرعية على العقود العرفية لكنها تظل شرعية منقوصة لأنها دون توثيق يضمن الحقوق. هكذا صارت الأعراف والعادات على عنق «ندى» كمثلها فى بعض القرى والأقاليم كسكين يذبح لا يحمي، فالأفكار المغلوطة وسواس يطارد أصحابها ويدفعهم دفعا نحو إلحاق الأذى وقتل طفولة فتياتهم حتى ولو كان دون قصد، فقد بدأت قصتها عندما قرر أهلها تزويجها دون السن القانونية عرفيا يونيو 2019، إلا أن الزوج استولى على جميع الإثباتات وهدد أهلها ورفض الاعتراف بالزواج حتى بعد لجوء الفتاة إلى مكاتب التسوية لحل المشكلة وديا. فى الدعوى رقم 1378 لسنة 2020 محكمة أسرة قليوب أقرت المحكمة إثبات زواج المدعية وإثبات زواجها العرفى بعدما قدم محاميها جميع الإثباتات والصور والأوراق التى تثبت صحة أقوالها فى مارس 2023. اقرأ أيضًا | حبس مآذون الشرقية لعقده قرآن «القاصرات» عرفيا عدد ضخم قضيتها ليست استثناء، بل واحدة من آلاف الحالات التى قدرها المجلس القومى للتعبئة والإحصاء لعام 2023 بما يقرب من 104 آلاف حالة تصادق - أى توثيق للزواج العرفى - ضمنهم 85 ألف عقد فى مناطق ريفية، و70 % كانت حالات تصادق لقاصرات أتممن السن القانوني. وعود جوفاء وهى ليست الحالة الوحيدة مع اختلاف الظروف، فأمام محكمة الأسرة بالقاهرة، وقفت منال - اسم مستعار - سيدة فى الثلاثينيات من عمرها، تحتضن طفلها ذى الأعوام الأربعة، وعيناها تملؤهما الحيرة والخوف، تنتظر نطق القاضى بحكم قد يمنح صغيرها «اسمًا» على الأوراق الرسمية، بعدما تنصل والده من كل شيء، الزواج، والأبوة. كانت قد تزوجت من صاحب شركة خاصة، عقدًا عرفيًا فى شقة بمنطقة مصر الجديدة، بحضور شاهدين. وعدها بأنه سيوثق الزواج لاحقًا، بمجرد أن «ينهى بعض مشكلاته»، لكنها لم تكن تعلم أن هذه المشكلات تشمل زوجة أولى وأبناء، وزوجة ثالثة أيضًا! طوال ست سنوات، ظلت تطالبه بتوثيق العقد، فواجهها بحجة الحفاظ على سمعته أمام عائلته. وفى مايو الماضي، لم تجد سبيلًا سوى رفع دعوى إثبات نسب، لتستطيع استخراج شهادة ميلاد لطفلها الذى أنكر والده حتى وجوده. سوق خفية فى إحدى العمارات السكنية المتواضعة قرب ميدان رمسيس، يصعد الزائر إلى الطابق الخامس ليجد لافتة صغيرة كُتب عليها «مأذون عرفى - عقود زواج شرعي»، وأسفلها رقم هاتف محمول، يبدو المشهد بسيطًا، لكنه يُخفى وراءه الكثير من الحكايات التى لم تروَ بعد، وتمنح الرجال منفذًا للتهرّب من المسؤولية تحت غطاء «الشرع». بالبحث على مدار أسابيع، تتبعت «الأخبار» سوق موازى للزواج دون توثيق، حيث تُعقد الزيجات العرفية مقابل مبالغ تتراوح بين 500 و5000 جنيه، عبر وسطاء ومكاتب وهمية ومواقع إلكترونية وصفحات على «فيسبوك» و»واتساب»، فى ظل غياب نص قانونى يحمى النساء والأطفال من ضياع حقوقهم. هكذا تبرم زيجات خارج دفاتر الدولة ، وتبرم عقود، تُستخدم للتحايل على القانون، ورغم القصص المفجعة التى توثقها ساحات محاكم الأسرة، لا يزال الزواج الكتابى قائما. مأذون لوجه الله «أنا مأذون لوجه الله.. اللى عايز زواج عرفى أو رسمى يتواصل معايا» منشور يحمل صاحبه اسم «عبد الله» يوجد عليه بعض التعليقات الباحثة عن التفاصيل والسعر، بينما يسخر البعض الآخر ويتعجب آخرون، هذا هو الحال فى زوايا الإنترنت المظلم، يوجد ما يقرب من 50 حساب وصفحة ومجموعة بهم قرابة عشرة آلاف متابع للزواج العرفي، بخلاف 6 مواقع رئيسية لمحامين ومأذونين وسماسرة يقدمون مجموعة من الخدمات كان ضمنها الزواج العرفي. تواصلنا مع بعض الصفحات واتضح أن بعضها هى لمكاتب موجودة بالفعل فى أرض الواقع منها مكاتب لمحامين ومأذونين بالقاهرة فى منطقتى حدائق القبة ووسط البلد والجيزة، كان أول مكتب تواصلنا معه للتعرف على الأسعار يملكه (محمد. س) وبلغ سعر العقد 1500 جنيه و500 قيمة أتعاب إحضار الشهود إذا لم تستطع توفيرهم، وأكد صاحب المكتب أن العقود المتوفرة فى المكتبات ببضع جنيهات فى الغالب لا يعتد بها فهو يوفر عقدا مكونا من 4 صفحات صفحة إمضاءات للطرفين والشهود وصفحة الشروط وصفحة للمؤخر وصفحة مقدمة بها نص التعاقد بين الطرفين بصيغة محددة وواضحة ومختوم من المكتب. واجهات جديدة لا تتم هذه الزيجات فقط داخل المكاتب، بل انتقلت إلى الفضاء الرقمي، حيث تنشط عشرات الصفحات والمجموعات على «فيسبوك» تحت أسماء مثل: «عقود زواج عرفى مضمون»، و»عقد شرعى سريع - بدون حضور» ومواقع أخرى للزواج العرفى بل ويتم الإعلان عنها. أحد الإعلانات يقول صراحة: «عقد زواج شرعى عرفى خلال 10 دقائق.. من غير ما تيجى أصلاً!».. وآخر يروج لعقد خاص ب»غير المقيمين فى مصر مع ضمان السرية التامة»، فيما تشير محادثة مسرّبة عبر واتساب إلى أن أحد المحامين يوافق على تحرير العقد «أونلاين»، لكنه يُضيف: «العقد غير مسجل، ولن نتحمل مسؤوليته الشرعية أو القانونية». وراء تلك العقود يقف بعض منتحلى صفة «مأذون شرعي» وبعض منتحلى صفة «محامي» دون حمل رقم ترخيص رسمي، ويمارسون نشاطهم عبر مكاتب قانونية ظاهرها شرعي، وباطنها الاتجار بعقود غير موثقة. أحد الإعلانات التى رصدها التحقيق يظهر فيه شخص يعلن عن نفسه كمأذون، ويعرض «خدمة توثيق زواج عرفى معتمد فى الدول العربية». بلا عقوبة فى الكثير من الحالات، لا يُعترف بالأبناء الناتجين عن هذه الزيجات، ما يعرضهم لمشكلات فى استخراج شهادات الميلاد أو إثبات النسب وغيرها من الحقوق الضائعة. يقول المستشار طارق المهدي، المحامى بالنقض والدستورية العليا، إنه لا يوجد نص صريح على تجريم الزواج العرفي، وأن هناك مجموعة من الشروط الشرعية العامة التى يجب توافرها فى أى عقد زواج حتى يكون صحيحًا، وهذه الشروط تنطبق أيضًا على الزواج غير الرسمى أو ما يُعرف بالزواج الورقى أو العرفى. وأوضح أن أول هذه الشروط هو توافر الأهلية الكاملة لدى الزوجين، والتى تعنى بلوغ السن القانونية وعدم وجود موانع عقلية أو قانونية تحول دون الزواج على سبيل المثال لابد من توافر ولى إذا كانت بكرا، ووجود شاهدين تتوفر بهما شروط الشهادة الشرعية، وكذلك شرط الإشهار، فلا يصح عقد السر، وغياب تلك الشروط أو بعضها يضيع الحقوق خاصة الأبناء والزوجة. وقال المهدي، إن القانون لا يعترف بزواج القاصرات، والدعوى تُرفض إذا لم تكن هناك وثيقة رسمية. وأوضح أن المادة 17 من قانون تنظيم بعض أوضاع وإجراءات التقاضى فى مسائل الأحوال الشخصية، الصادر بالقانون رقم 1 لسنة 2000، وضعت ضوابط صارمة لقبول الدعاوى القضائية المتعلقة بعقود الزواج. وأشار إلى أن نص المادة ينص صراحة على أنه: «لا تُقبل الدعوى الناشئة عن عقد الزواج إذا كان سن الزوجة يقل عن 16 سنة ميلادية أو كان سن الزوج يقل عن 18 سنة ميلادية وقت رفع الدعوى. كما لا تُقبل عند الإنكار الدعوى الناشئة عن عقد الزواج الواقع بعد 1 أغسطس سنة 1931، ما لم يكن الزواج ثابتًا بوثيقة رسمية. ومع ذلك، تُقبل دعوى التطليق أو الفسخ إذا كان الزواج ثابتًا بأى كتابة». وأكد أن هذا النص يُعد من أهم النصوص التى تنظم التعامل القانونى مع الزيجات التى تتم دون توثيق رسمي، وخاصة فى حالات زواج القاصرات، مشددًا على أن القانون لا يعترف بأى علاقة زوجية إذا لم يكن طرفاها قد بلغا السن القانونية وقت رفع الدعوى. وأضاف أن الشرط الأساسى لقبول أى دعوى أمام المحكمة فى هذا الشأن هو وجود وثيقة زواج رسمية، أما فى حالة الإنكار، فلا يُعتد بأى زواج تم بعد عام 1931 إذا لم يكن موثقًا رسميًا، ويُستثنى من ذلك فقط دعاوى الفسخ أو التطليق، والتى يمكن قبولها إذا وُجد مستند كتابى يثبت الزواج، حتى وإن لم يكن موثقًا. وكشف المهدى عن ثلاث حالات رئيسية تمثل الأسباب الأشهر للجوء إلى الزواج الورقى بدلًا من التوثيق الرسمي، الأولى حين تكون الزوجة أرملة وتتقاضى معاشًا عن زوجها المتوفى، وفى حال زواجها رسميًا يتم قطع المعاش، ولهذا تلجأ بعض النساء إلى الزواج الورقى للحفاظ على مصدر الدخل، وهذه الممارسات تشكل مخالفة قانونية صريحة وقد تعرضها إلى الحبس، والثانية تتعلق بزواج القاصرات بدعوى الستر، فيلجأ الأهل حينها إلى الزواج الورقي، ويتم العقد بحضور الولى الشرعى والشهود، ويُقام الزواج بشكل كامل، لكن الزواج لا يكتسب الصفة القانونية، تمهيدا للتوثيق عند بلوغها للتصادق. أما النوع الثالث فهو ما يُسمى زواجًا ورقيًا لكنه فى الحقيقة زواج سرى، يتم بين طرفين دون علم الأهل أو وجود شهود أو إشهار، ويكتبان ورقة زواج بينهما بعيدًا عن أى مرجعية شرعية أو قانونية. هذا النوع - حسب وصف المهدى - ليس زواجًا لا شرعًا ولا قانونًا، بل يدخل تحت مسمى العلاقات المحرمة مشيرا إلى أن بعض الشباب فى سن صغيرة يقعون فى هذا الخطأ بسبب الانسياق خلف مشاعر سطحية دون إدراك للعواقب القانونية والاجتماعية والدينية لهذا النوع من العلاقات وتنتهى بمآس، لأن العلاقة فى نظر القانون غير معترف بها إلا بعد إثباتها وبالتالى لا حقوق لكل طرف لدى الآخر. وأوضح أن الزوجة إذا أرادت الحصول على حقوقها الشرعية الناتجة عن هذا العقد، فعليها أولًا أن ترفع دعوى إثبات زواج عرفى أمام المحكمة المختصة، وتُعلن الزوج، وإذا حضر وأقر بالزواج تحكم المحكمة بثبوته، وفى حال اقتنعت المحكمة، تصدر حكمًا قضائيًا بإثبات الزواج العرفي، وإذا لم تقتنع بالأدلة تُرفض الدعوى، فالأمر مرهون بقوة الإثبات، وبعد الحكم به من حق الزوجة المطالبة بحقوقها. وانتقل المهدى إلى رأيه الشخصى فى الزواج الورقي، داعيًا لتدخل تشريعى عاجل بتجريم هذا النوع من الزواج، مؤكدًا أن الأضرار الناتجة عنه تفوق بمراحل الحالات التى تسير بشكل طبيعي، ويؤكد أن الواقع اليومى فى مكتبه يثبت حجم الكارثة، خاصة الأطفال الذين يعانون من ضياع النسب بسبب وفاة الأب أو إنكاره، مشددا على أن التجريم لا علاقة له بالتضييق لكنه حفظ لحق المجتمع.. ولفت إلى أن هناك فرقًا كبيرًا بين الزواج الورقى والزواج السرى، فالأول قد تتوافر فيه بعض الأركان الشرعية لكنه غير موثق، أما السرى فلا علاقة له لا بالشرع ولا بالقانون.. واختتم المهدى حديثه بالتحذير من أن بعض حالات الزواج العرفى لا تتجاوز تكلفتها الورقة والحبر، حيث تُكتب العقود بأبسط الطرق من الإنترنت أو المكتبة، أو عبر أشخاص غير مؤهلين قانونيًا أو شرعيًا، ما يشكل خطرًا بالغًا على الأسرة. غير مجرم قانونًا يتفق معه فى الرأى إيهاب الأطرش، المحامى بالاستئناف العالى ومجلس الدولة، أنه لا يوجد أى نص صريح فى القانون يجرم الزواج العرفي، وأنه بمثابة قنبلة تهدد الأسرة والمجتمع، مشيرا إلى أن هناك أزواجا يتحايلون على القانون وينفصلون رسميا ثم يعاودون الزواج من جديد لكن عرفيا، من أجل أن تحصل الزوجة على معاش أبيها بالإضافة إلى معاش الزوج على سبيل المثال. ويضيف المحامى بالاستئناف العالى أن الزواج العرفى أو الكتابى هو باب خلفى لكثير من القضايا التى يتم التلاعب فيها والتحايل ويفتح النار على الأسر والمجتمع ويؤدى إلى ضياع الحقوق، مشيرا إلى أن زواج الفتاة القاصر فقط هو ما يعد جريمة فين حين أن الزواج العرفى إذا كان لبالغين خاصة إذا كانت المرأة سبق لها الزواج أى لا تحتاج إلى ولى، وتوافرت أركان الزواج بإشهار وشهود حتى لو كان دون توثيق يصعب إصدار قانون لتجريمه. للقاصرات فقط ويوضح إيهاب الأطرش، المحامى، إن المواد 267 و268 و269 من قانون العقوبات المصرى شددت على عدم جواز التصادق على عقد زواج طفل أو طفلة لم يبلغا 18 عامًا وقت إبرام العقد، مؤكدًا أن العقوبة تطال كلًا من الولى أو الوصى الذى أتم الزواج، وكذلك المأذون الذى حرر العقد. ويضيف الأطرش أن العقوبة لا تسقط حتى بعد بلوغ الطفل السن القانونية، وتتمثل فى الحبس لمدة 6 أشهر، وغرامة مالية تتراوح بين 20 إلى 50 ألف جنيه، بالإضافة إلى عزل المأذون من وظيفته حال ثبوت تورطه، أما الزواج العرفى الشائع بين الشباب، والذى يُبرم باتفاق الطرفين دون توثيق رسمى فى المحكمة، فلا يُجرَّم قانونًا - بحسب الأطرش - طالما لم يقترن بضرر أو مخالفة قانونية أخرى، لأنه لا يُعد فى حد ذاته جريمة. أبواب خلفية تواصلنا مع محمد الدومى، مأذون شرعى، الذى أكد أن مثل هذه الأفعال لا تصح فى العلن وأنه من يعلن أنه مأذون عرفى فى الغالب منتحل صفة وليس مأذونا من الأساس، ولا بد من الإبلاغ عمن يسىء للمهنة وقد يواجه الشطب من نقابة المأذونين.. وأضاف المأذون الشرعى أن عقد الزيجات العرفى هو نشر للفساد وضياع للحقوق ولابد من رادع ووقفة لمثل هذه الأفعال على الفور سواء كانت على الفضاء الإلكترونى أو أبواب خلفية لبعض المكاتب.