مصر على عتبة تحول تاريخى من ندرة الموارد إلى استدامة بلا حدود البلاستيك البيولوجى والطاقة النظيفة كنوز تنتظر الاستثمار يشهد العالم تحولاً جذريًا فى بوصلته الاقتصادية، متجهًا نحو نماذج أكثر استدامة ومرونة فى مواجهة التحديات المتزايدة، وفى قلب هذا التحول، يبرز «الاقتصاد الحيوى الدائري» كنموذج واعد يجمع بين الاستخدام الذكى للموارد البيولوجية المتجددة وتقنيات إعادة التدوير المُبتكرة، ليقدم حلولًا متكاملة للتنمية المستدامة وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفورى الذى يهدد كوكبنا. وبعيدًا عن المصطلحات الأكاديمية المُعقدة، يمكن تعريف الاقتصاد الحيوى الدائرى ببساطة بأنه دمج بين مفهومين رئيسيين: الاقتصاد الحيوي، الذى يعتمد على استخدام الكتلة الحيوية المتجددة من النباتات والكائنات الدقيقة والحيوانات لإنتاج الطاقة والمواد والمنتجات، والاقتصاد الدائري، الذى يهدف إلى تقليل النفايات إلى الحد الأدنى، وإعادة استخدام المواد والمنتجات لأطول فترة ممكنة، وإعادة تدويرها فى نهاية المطاف، بدلاً من التخلص منها. هذا الدمج يخلق نظامًا متكاملاً يقلل الضغط على الموارد الطبيعية، ويقلل من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، ويخلق فرصًا اقتصادية جديدة، وتأكيدًا على ذلك، يشير تقرير حديث صادر عن الاتحاد الأوروبى إلى أن التحول إلى الاقتصاد الحيوى الدائرى يمكن أن يخلق أكثر من مليون وظيفة جديدة فى أوروبا وحدها بحلول عام 2030، مما يبرز الإمكانات الهائلة لهذا النموذج. مصر على مفترق طرق: التحديات والفرص فى السياق المصري، تزداد أهمية تبنى الاقتصاد الحيوى الدائرى فى مصر، وتكتسب أهمية التحول نحو الاقتصاد الحيوى الدائرى بعدًا إضافيًا نظرًا للتحديات البيئية والاقتصادية التى تواجهها البلاد، فمصر، كغيرها من الدول النامية، تعانى من ندرة الموارد الطبيعية، وتأثيرات تغير المناخ المتزايدة، والحاجة المُلحة إلى تحقيق التنمية المستدامة لتلبية احتياجات الأجيال الحالية والمستقبلية. وقد خطت مصر بالفعل خطواتٍ واعدة فى هذا الاتجاه، حيث تقود أكاديمية البحث العلمى والتكنولوجيا جهودًا حثيثة لدعم البحوث والمبادرات الهادفة لتطوير الاقتصاد الحيوى الدائري. ومع ذلك، لا يزال الطريق طويلاً ومليئًا بالتحديات والفرص التى يجب التعامل معها بحكمة وفعالية. الواقع المصري كان لى شرف المشاركة فى دراسة علمية دولية، بالتعاون مع فريق متميز من الأكاديمية وخبراء دوليين، لتحليل الوضع الحالى للاقتصاد الحيوى الدائرى فى مصر، واستعراض السياسات القائمة، واستكشاف الفرص الكامنة، وتحديد التحديات المستقبلية التى تعترض طريقه. وتكشف الدراسة عن أن الاقتصاد الحيوى فى مصر يتركز حاليًا فى قطاعات تقليدية مثل: الزراعة والغذاء والطاقة الحيوية، حيث يتم استخدام بعض المخلفات الزراعية لإنتاج الأسمدة الحيوية والوقود الحيوي. ومع ذلك، هناك إمكانات هائلة غير مُستغلة فى مجالات أكثر تطورًا مثل: البلاستيك الحيوى أو البيولوجي، الذى يمكن إنتاجه من مصادر متجددة مثل: النشا والسليلوز، ليحل محل البلاستيك التقليدى المعتمد على النفط، وإعادة تدوير المخلفات الزراعية والصناعية، التى يمكن تحويلها إلى منتجاتٍ ذات قيمة مضافة مثل: الأسمدة العضوية والمواد الكيميائية الحيوية، وتؤكد نتائج الدراسة أن تعزيز الاقتصاد الحيوى الدائرى فى مصر يمكن أن يساهم فى تحقيق العديد من أهداف التنمية المستدامة، التى تمثل خارطة طريق عالمية للتنمية المستدامة بحلول عام 2030. وتشمل هذه الأهداف: القضاء على الجوع (الهدف 2)، وتوفير العمل اللائق والنمو الاقتصادى (الهدف 8)، وضمان أنماط الاستهلاك والإنتاج المسئولة (الهدف 12)، واتخاذ إجراءاتٍ عاجلة لمكافحة تغير المناخ وآثاره (الهدف 13)، وأخيراً الحفاظ على الحياة فى البر (الهدف 15). تحديات وفرص: الطريق إلى الأمام تواجه مصر، كغيرها من الدول النامية، تحدياتٍ هيكلية تعرقل التطور السريع للاقتصاد الحيوى الدائري. وتشمل هذه التحديات: عدم كفاية البنية التحتية، بما فى ذلك شبكات جمع وتوزيع المخلفات العضوية، ومرافق المعالجة وإعادة التدوير، ونقص التقنيات المتقدمة، فى مجالات مثل: التكنولوجيا الحيوية والهندسة الوراثية والبيولوجيا التركيبية، وسلاسل القيمة غير المتكاملة، التى تعيق تدفق المواد والمعلومات بين مختلف القطاعات. بالإضافة إلى ذلك، هناك تحديات تتعلق بالسياسات والإطار التنظيمي، مثل: غياب استراتيجية وطنية شاملة للاقتصاد الحيوى الدائري، وعدم وجود حوافز كافية لتشجيع الاستثمار فى هذا المجال، كما أن هناك حاجة إلى زيادة الوعى والتدريب بين مختلف أصحاب المصلحة، بما فى ذلك الشركات والمزارعون والمستهلكون. ومع ذلك، تمتلك مصر أيضًا فرصًا كبيرة يمكن استغلالها لتحقيق قفزة نوعية فى هذا المجال، وتشمل هذه الفرص: الموارد الزراعية الوفيرة، حيث تمتلك مصر مساحاتٍ واسعة من الأراضى الزراعية التى تنتج كميات كبيرة من المخلفات الزراعية التى يمكن استخدامها كمواد خام لإنتاج الطاقة الحيوية والمواد الكيميائية الحيوية. والإمكانات الناشئة فى مجالات واعدة، مثل: الفحم الحيوى (الذى يمكن استخدامه كوقود بديل وتحسين خصوبة التربة) والوقود الحيوى (الذى يمكن أن يقلل الاعتماد على الوقود الأحفوري) وإعادة التدوير المتقدمة (التى تسمح بتحويل النفايات إلى منتجات ذات قيمة مضافة). دور البحث العلمى والابتكار لتحقيق أقصى استفادة من هذه الفرص، يجب أن يلعب البحث العلمى والابتكار دورًا محوريًا. وفى هذا السياق، تضطلع أكاديمية البحث العلمى والتكنولوجيا بدور رائد فى دعم البحوث والمبادرات المتعلقة بالاقتصاد الحيوى الدائري.. وقد شاركت مؤخرًا فى فعاليات المؤتمر السنوى للدراسات العليا فى كلية العلوم بجامعة قناة السويس، حيث قدمت محاضرة بعنوان «البيولوجيا التركيبية والتكنولوجيا الحيوية فى الاقتصاد الحيوى الدائري: إغلاق الحلقة من أجل مستقبل مُستدام». وقد سلطت المحاضرة الضوء على الدور المحورى الذى تلعبه هذه التقنيات المتقدمة فى تطوير حلول مُبتكرة فى مجالات مثل: الزراعة المستدامة، من خلال تطوير محاصيل مُعدلة وراثيًا ومُحررة جينوميًا ذات إنتاجية أعلى ومقاومة للأمراض والآفات، وتقليل الاعتماد على الأسمدة والمبيدات الكيميائية الضارة، وإنتاج الطاقة المتجددة، من خلال استخدام الكائنات الحية الدقيقة لإنتاج الوقود الحيوى والمواد الكيميائية المُستدامة من الكتلة الحيوية المتجددة. ومعالجة النفايات والتلوث، من خلال تصميم أنظمة بيولوجية قادرة على تحويل النفايات العضوية إلى منتجاتٍ ذات قيمة، وتنظيف التلوث البيئي. توصيات للتحرك قدمًا ولتحقيق التحول المنشود نحو الاقتصاد الحيوى الدائرى فى مصر، توصى الدراسة التى شاركت فيها باتخاذ مجموعة من التدابير المتكاملة، بما فى ذلك: تفعيل استراتيجية وطنية شاملة للاقتصاد الحيوى الدائري، تتضمن أهدافًا واضحة ومؤشرات أداء قابلة للقياس، وتعزيز البحث والتطوير فى مجالات التكنولوجيا الحيوية والهندسة الوراثية والبيولوجيا التركيبية، من خلال زيادة التمويل وتوفير البنية التحتية اللازمة. كما يجب دعم الشراكات بين القطاعات بين الجامعات ومراكز البحث والصناعة والقطاع الخاص، لتسريع وتيرة الابتكار وتطوير الحلول العملية، وتبنى سياساتٍ داعمة للاقتصاد الحيوى الدائري، بما فى ذلك وضع تشريعات واضحة، وتقديم حوافز ضريبية وتمويل للمشروعات المُبتكرة، وتسهيل الوصول إلى الأسواق، وزيادة الوعى والتدريب، والتركيز على القيمة المجتمعية للاقتصاد الحيوى الدائري، من خلال خلق فرص عمل جديدة، وتحسين الأمن الغذائي، وتعزيز التنمية الريفية، والحد من الفقر.. إن تبنى مصر للاقتصاد الحيوى الدائرى ليس مجرد خيار بيئى أو اقتصادي، بل هو ضرورة استراتيجية لضمان مستقبل أكثر استدامة وازدهارًا للأجيال القادمة، ومن خلال العمل المتضافر بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني، يمكن لمصر أن تستفيد من الإمكانات الهائلة لهذا النموذج الاقتصادى الواعد، وأن تضع نفسها فى طليعة الدول التى تسعى جاهدة لتحقيق التنمية المُستدامة والنمو الأخضر. د. طارق قابيل أكاديمي، وكاتب علمي، وخبير التكنولوجيا الحيوية بقسم التقنية الحيوية، كلية العلوم جامعة القاهرة. [email protected]