رئيس جهاز مدينة القاهرة الجديدة يتفقد مشروع السوق الحضارية    تدشين مبادرة «ازرع نخلة» بمدارس الخارجة لتعزيز الوعى البيئى للطلاب    استشهاد فلسطينيين اثنين بنيران الاحتلال الإسرائيلي في قطاع غزة    أليسون: محمد صلاح أسطورة في ليفربول وأتمنى أن يلعب للنادي مرة أخرى    كاراجر: صلاح لم يكن نجما وفشل مع تشيلسي.. ويهتم بنفسه فقط    ختام معسكر منتخب مصر الأول بمشروع الهدف استعدادا لأمم أفريقيا.. صور    تفاصيل محافظات عطلت الدراسة غدا وأخرى قررت استمرارها    أبطال فيلم الست يحتفلون بعرضه في السعودية    المستشارة أمل عمار تشارك في فعاليات المساهمة في بناء المستقبل للفتيات والنساء    أراوخو يواجه مستقبلا غامضا مع برشلونة بسبب حالته النفسية    وزير النقل التركي: ندعم كل خطوة لإعادة إعمار سوريا    ضبط دقيق مدعم قبل تهريبه للسوق السوداء و سجائر مهربة فى حملة بالإسكندرية    وزير الزراعة: نقل الحيوانات أحد تحديات عملية تطوير حديقة الحيوان بالجيزة    التحقيق مع مسن تحرش بطفلة علي سلم عقار في أوسيم    افتتاح فيلم «الست» في الرياض بحضور نخبة من نجوم السينما| صور    إعلان أول نموذج قياسي للقرى الخضراء الذكية بجهود مشتركة بين جامعة طنطا ومحافظة الغربية    أمريكا.. وإسرائيل ووقف إطلاق النار    الصين تضخ 80 مليار دولار في استثمارات الطاقة النظيفة بالخارج لفتح أسواق جديدة    رجعت الشتوية.. شاهد فيديوهات الأمطار فى شوارع القاهرة وأجواء الشتاء    وزير الاستثمار يبحث مع مجموعة أبو غالي موتورز خطط توطين صناعة الدراجات    تضامن الإسماعيلية يشارك في الاحتفال باليوم العالمي لذوي الإعاقة    أسرة عبدالحليم حافظ تفجر مفاجأة سارة لجمهوره    فرقة الكيبوب تتصدر قائمة بيلبورد للألبومات العالمية لعام 2025    54 فيلما و6 مسابقات رسمية.. تعرف على تفاصيل الدورة السابعة لمهرجان القاهرة للفيلم القصير    نيجيريا تتحرك عسكريا لدعم حكومة بنين بعد محاولة انقلاب فاشلة    ارتفاع مؤشرات بورصة الدار البيضاء لدى إغلاق تعاملات اليوم    الجمعية العمومية لاتحاد الدراجات تعتمد خطة تطوير شاملة    مصدر أمني ينفي مزاعم الإخوان بشأن وفاة ضابط شرطة بسبب مادة سامة    الأسهم الأمريكية تفتتح على تباين مع ترقب الأسواق لاجتماع الاحتياطي الفيدرالي    ظريف يتلاسن مع الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي    كيف تحمي الباقيات الصالحات القلب من وساوس الشيطان؟.. دينا أبو الخير تجيب    سفير اليونان يشارك احتفالات عيد سانت كاترين بمدينة جنوب سيناء    إمام الجامع الأزهر محكمًا.. بورسعيد الدولية تختبر 73 متسابقة في حفظ القرآن للإناث الكبار    محافظ الجيزة يتابع انتظام العمل داخل مستشفى الصف المركزي ووحدة طب أسرة الفهميين    إنجاز أممي جديد لمصر.. وأمل مبدي: اختيار مستحق للدكتور أشرف صبحي    عضو مجلس الزمالك يتبرع ب400 ألف دولار لسداد مستحقات اللاعبين الأجانب    إعلان توصيات المنتدى الخامس لاتحاد رؤساء الجامعات الروسية والعربية    لليوم الثالث على التوالي.. استمرار فعاليات التصفيات النهائية للمسابقة العالمية للقرآن الكريم    23 طالبًا وطالبة بتعليم مكة يتأهلون للمعرض المركزي إبداع 2026    وزير الصحة يبحث مع الأوروبي للاستثمار إطلاق مصنع لقاحات متعدد المراحل لتوطين الصناعة في مصر    بعد ساعتين فقط.. عودة الخط الساخن ل «الإسعاف» وانتظام الخدمة بالمحافظات    السيدة زينب مشاركة بمسابقة بورسعيد لحفظ القرآن: سأموت خادمة لكتاب الله    أمين الأعلى للمستشفيات الجامعية يتفقد عين شمس الجامعي بالعبور ويطمئن على مصابي غزة    انطلاق أعمال المؤتمر الدولي ال15 للتنمية المستدامة بمقر الأمانة العامة للجامعة العربية    فرقة القاهرة للعرائس المصرية تكتسح جوائز مهرجان مصر الدولي لمسرح الطفل والعرائس    إقبال الناخبين المصريين في الرياض على لجان التصويت بانتخابات الدوائر الملغاة    عاجل- الاحتلال الإسرائيلى يواصل خروقاته لوقف إطلاق النار لليوم ال59 وقصف مكثف يطال غزة    حبس زوجين وشقيق الزوجة لقطع عضو شخص بالمنوفية    وزير الثقافة: أسبوع باكو مساحة مهمة للحوار وتبادل الخبرات    المقاولون عن أزمة محمد صلاح : أرني سلوت هو الخسران من استبعاد محمد صلاح ونرشح له الدوري السعودي    قرار جديد من المحكمة بشأن المتهمين في واقعة السباح يوسف    متحدث الصحة ل الشروق: الإنفلونزا تمثل 60% من الفيروسات التنفسية المنتشرة    الرئيس السيسي يؤكد دعم مصر الكامل لسيادة واستقرار ليبيا    أزمة سد النهضة.. السيسي فشل فى مواجهة إثيوبيا وضيع حقوق مصر التاريخية فى نهر النيل    الإفتاء تؤكد جواز اقتناء التماثيل للزينة مالم يُقصد بها العبادة    النيابة تطلب تقرير الصفة التشريحية لجثة سيدة قتلها طليق ابنتها فى الزاوية الحمراء    ضمن مبادرة «صحّح مفاهيمك».. أوقاف الغربية تعقد ندوات علمية بالمدارس حول "نبذ التشاؤم والتحلّي بالتفاؤل"    وزير الصحة يترأس اجتماعا لمتابعة مشروع «النيل» أول مركز محاكاة طبي للتميز في مصر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أم كلثوم.. صوت مصر على ضفاف النهر
نشر في بوابة أخبار اليوم يوم 14 - 09 - 2025


منى عبد الكريم
أعترف أن علاقتى بأم كلثوم بدأت متأخِّرة بعض الشىء، إذ لم أكن من محبيها فى طفولتى رغم ولع أمى بها لكن علاقتى الحقيقية بها بدأت لاحقًا عبر بوابة الكلمة، حين أهدانى صديق، رحمه الله، كتاباً لكلمات أغانيها.
ومن قصيدة أراك عصى الدمع» التى حفظتها عن ظهر قلب فى الثانوية بدأت أسلم وجدانى بالكامل لها، وأصبحتُ من مريديها. أما صديقى فقد ظلَّ يذكرنى دائماً بهديته مختاراً أن يردد كلمات بيرم التونسى: «شمس الأصيل دهَّبت، خوص النخيل يا نيل، تحفة ومتصورة، فى صفحتك يا جميل».
أمر عبر بوابة قصر عائشة فهمى، وأنظر إلى وجه النيل المطل علينا وأنا فى طريقى لزيارة معرض «صوت مصر» الذى أقيم احتفاءً بأم كلثوم بمناسبة مرور خمسين عاماً على رحيلها.
لا أترك نفسى لانطباعات مسبقة عن تعدد الأعمال الفنية التى سبق أن تناولت الست؛ وفضّلت أن أستكشف المعرض هادئاً بعيداً عن زحام الافتتاحات.
رافقنى فى الجولة كثير من الشباب جاءوا خصيصاً لمشاهدة المعرض؛ كانت الهواتف المحمولة هى وسيلتهم فى تسجيل رحلتهم صوتاً وصورة ربما بحثاً عما ستتم مشاركته لاحقاً عبر صفحاتهم على السوشيال ميديا.. لكنى لا أنسى تلك الكلمة التى وصلت إلى قلبى مباشرة حين انطلقت بشكل عفوى تماماً من أحد الزوار وهو يعبر خارجاً من أحد الغرف: «الله».
إن تجربة الاستماع إلى الست أم كلثوم لا تمر لعشاقها من السميعة دون أن يفلت هذا النداء منهم، وربما لذلك تجلت حالة الاتصال بين الثقافة السمعية والبصرية بشكل كبير فى هذا المعرض بداية من اسم المعرض «صوت مصر» وكعنوان فرعى «صوت ألهم الصورة».. فلشريط الصوت أهمية توازى أهمية المسار البصرى للمعرض لا سيما مع انطلاق أغنيات الست عبر سمَّاعات قاعات العرض.
لطالما تحوَّلت كلمات أغانيها إلى مشاهد حية؛ إذ يصبح الصوت حكاية ممتدة ترافق الإبداع وتشكل ذاكرة فنية.
يروى الفنان طارق الكومى كيف احتضن صوتها منذ الطفولة، ويعترف بأن استماعه لأغنية «الصبحية ساعة هنية» وهو فى الصف الأول الابتدائى كان الشرارة التى جذبت مشاعره وصارت مصدر إلهام طويل الأمد. يقول: «أنا من مواليد 1962.
عندما بلغت السادسة من عمرى، وكنت فى الصف الأول الابتدائى عام 1968 وأثناء ذهابى إلى المدرسة وسماعى الأغنية (الصبحية ساعة هنية)، بدأت تتسرب بداخلى مشاعر وأحاسيس جذبتنى بقوة لصوت وغناء أم كلثوم، ومع الوقت أصبحت من عشاقها مستمتعاً بكل مراحل غنائها من أول أبو العلا محمد والقصبجى والسنباطى إلى عبد الوهاب وبليغ.
وأرى أنها ما زالت حتى الآن أيقونة الفن والإبداع وستبقى مصدر إلهام وجذب وعنواناً للفن الجاد الذى يحمل صفة الخلود».
لعلنى حين أتحدث عن معرض «صوت مصر فإننى أرى فيه فلسفة الصوت الذى يتردد صداه من الماضى إلى الحاضر بامتداد جريان النهر؛ فكل رمز وظّفه الفنانون فى المعرض يشكل حلقة متصلة فى سلسلة الثقافة المصرية الممتدة عبر التاريخ، بدءاً من استدعاء رموز المصرى القديم فى أكثر من عمل.. ففى عمله «ثومة فى الجنة» يفتَح خالد حافظ أفقاً بصرياً وفلسفياً واسعاً، يبدأ من تكليفه الأول لهذا العمل من معهد العالم العربى فى باريس عام 2009، ليتطور لاحقًا فى القاهرة، مع الاحتفاظ بجوهر الفكرة واحدًا كما يذكر: البحث فى الفن المصرى القديم، خاصة فى الأسطورة المصرية القديمة.
وتابع: «تظهر فى كل الأعمال نوت إلهة السماء، ربما يتقاطع هنا معنى قدسية السماء مع الوصف الذى ارتبط به لقاء أم كلثوم مع محمد عبد الوهاب بوصفه لقاء السحاب.
ولكننى حين أتأمل اللوحة بحضور نوت بجسدها المنحنى كقبة سماوية تحتضن كل الأشياء وفى قلب هذا المشهد تظهر أم كلثوم، أتذكر ذلك الوصف الذى اشتهرت به وهو «كوكب الشرق»، ليست كأيقونة للغناء العربى فحسب بل كقوة حيّة تعبر الأزمنة».
«ثومة فى الجنة» كما يذكر حافظ ليس مجرد عنوان، بل اقتراح بصري وفلسفى لعالم موازٍ، حيث يتجاور الفن بالغيب، وتستعاد فيه الذاكرة الجمعية من خلال العمل الفنى بخاماته ودلالاته، وإشاراته الرمزية فى محاولة لإعادة كتابة أم كلثوم ضمن سرديات الخلود المصرية، لا كذكرى بل كقوة حية تتردد أصداؤها فى أعماق الهوية.
قدسية الصوت
تتنوع تجليات المصرى القديم فى كثير من الأعمال، إذ تم توظيف زهرة اللوتس فى لوحة الفنان إبراهيم خطاب، حيث تحيط بأم كلثوم كدلالة على الخلود وإعادة الميلاد؛ فالزهرة ليست مجرد زينة بصرية بل رمز ينبعث منه الفن من الذاكرة لا من الجسد. وفى لوحة الفنان على سعيد نراه استبدل المايك بزهرة اللوتس رمز الخلود.
يقول: «فى هذا العمل أستدعى عظمة أم كلثوم ليس فقط كصوت نادر، بل كأيقونة ثقافية تتجاوز حدود الزمن.
تقف متصدرة المشهد فى حالة تجلى تحيط بها هالة في استحضار جمالي لقدسية الصوت. تشدو فى شموخ، وينتشر صوتها ليصل إلى مسامع عشاقها من سميعة الصف الأول، لا عبر الميكروفون، ولكن عبر زهرة اللوتس.. رمز الخلود والتى تخرج من الأرض الطيبة، طيبة كنشأتها، خالدة كسيرتها».
وفى مشهد يجمع بين لوحتى عبد الوهاب عبد المحسن وعلى سعيد وتمثال محمد بنوى تتكامل مجموعات الأعمال الفنية المعروضة لتخلق حواراً يضيف أبعاداً جديدة للعرض؛ فمن زهرة اللوتس إلى شجرة الجميز المقدسة التى استحضرها عبد المحسن فى علاقتها بالآلهة المصرية حتحور ونوت.
يعلق عبد الوهاب: ««شجرة الجميز المقدسة، الأم السماوية هو لقب أطلق على إيزيس وحتحور ونوت كرمز لأمومة السماء للإنسان، وفى قلب نصوص الأهرام تلك النقوش المقدسة تتجلى الآلهة حتحور سيدة الجمال والموسيقى. حتحور سيدة الجميز هى الحضن الإلهى الذى يحول الإنسان إلى نجم وهى صورة الأبدية فى هيئة أنثى».
أما الفنان محمد بنوى فيقول: «أثناء عملى على تمثال أم كلثوم، كنت أسترجع صوتها المميز، وزمنها الجميل، وتلك الهالة التى كانت تحيط بها وهى تغنى على المسرح وتمسك بمنديلها الشهير.. لم يكن هدفى أن أجسد ملامحها بدقة، بل أن أعبر عن روحها،قوتها، هيئتها، والحنان الذى يظهر فى نظرتها العميقة. كان هذا العمل بمثابة تحية لصوت لا يُنسى، وصدى لا يزال يعيش فى قلوبنا».
فى هذا المشهد تتجلى حالة التماس بين الأعمال الثلاثة فى تجسيد القوة والشموخ التى تم تصوير أم كلثوم بها ترنو بهامتها نحو السماء، والوجه محاط بنور أو هو بالأساس نور قادم من الداخل.
يمتد المعرض عبر أزمنة وأساليب متنوعة: من سيف وانلى الذى استلهم المشهد المسرحى المشهور لأم كلثوم وفرقتها، إلى صلاح طاهر وحسين بيكار وجمال السجينى وغيرهم من رموز الحركة التشكيلية المصرية.
تتضافر أعمالهم مع أعمال جيل معاصر من الفنانين برؤى جديدة ومتباينة، فتتنوع الوسائط بين الرسم والنحت والكولاج والفيديو، ليصبح المعرض ساحة حوار حى بين الماضى والحاضر ومعادلاً فعلياً لصوت مصر.
مشروع كاريل
كذلك فإن بعض الفنانين تجاوزوا صورة أم كلثوم بوصفها أيقونة فردية، ليتوقفوا عند الفرقة الموسيقية التى صنعت معها هذا المجد. ففى عمل كاريل حمصى الذى تم إنجازه فى 2006، نرى أم كلثوم فى وقفتها الشهيرة، بالمنديل والعيون المغمضة فى اندماج كامل، بينما يطل أفراد فرقتها بملامح واضحة وتكون أسماؤهم حاضرة - كما تذكر الفنانة - فى تقدير مباشر لدورهم الأساسى فى صناعة اللحظات الخالدة.
هذا العمل يعكس جانباً من مشروع كاريل الفنى فى الاحتفاء بالذاكرة المصرية وثقافتها العريقة، إذ سبق وأن قدمت كذلك لوحة عن فيلم ابن حميدو، فى إشارة إلى عشقها للسينما المصرية وماضيها العريق، لتؤكد أن الفن عندها رؤية متصلة.
وفى السياق ذاته، تحضر صورة الفرقة الموسيقية فى لوحة الفنان طاهر عبد العظيم بما يعكس رؤية بأن الست لم تكن وحدها الظاهرة، بل كانت نتاج جماعة فنية ثقافية متكاملة ساهمت فى صناعة مجدها وفى ترسيخ حضورها فى وجدان المصريين.
وتغدو أم كلثوم فى كثير من الأعمال الفنية رمزًا يتجاوز حدودها الشخصية ليحاكى صورة الوطن نفسه وتبدو معادِلًا لمصر ذاتها.
فالفنان جورج بهجورى، الذى قدم عبر مشواره الفنى أكثر من 300 لوحة لها، صرّح فى أحد حواراته: «أعتبرها مصر، فإذا كانت مصر باقية وتتجدد، فإن أم كلثوم باقية وتتجدد». ومن منظور آخر، نجد أحمد رجب صقر يربط أم كلثوم بفلسفة «تراب الوطن».
فعمله المنجز برمال مصرية جاء رد فعل على حادثة حريق المجمع العلمى، ليبدأ من خلاله مشروعًا فنيًا يخلّد 120 شخصية تركت أثرها فى العلم والفكر والفنون. وهنا تتحول ذرات الرمال إلى حافظة للذاكرة الجماعية.
أما أحمد عبد الكريم، فقد صاغ رؤية مختلفة حين جعل من أم كلثوم «هرم مصر الرابع»، معتبرًا إياها هرم الموسيقى المصرية المعاصرة. يقول: «فى هذا العمل استطعت تجميع كل الحركات الإيقاعية للمستمتعين بصوتها داخل هرم ذهبى، وهى تعلو فى مركب فرعونى، كما لو كانت تطل عليهم من هناك عبر الأثير».
ينفتح المعرض كذلك على قراءة أعمق لأم كلثوم كأيقونة قادرة على جمع مختلف طبقات المجتمع فى مشهد «السميعة»، الذين وحّدهم صوتها، ليكون انعكاسًا حيًا لوجه الثقافة المصرية. فى أعمال عمر عبد الظاهر ومصطفى رحمة وعماد إبراهيم تتجلى هذه الفكرة فى تنويعات متعددة.
فقد اختار عمر عبد الظاهر أن ينحاز إلى البسطاء، فرسم زوجين من البسطاء يحمل الرجل بين يديه راديو يصدح بصوت أم كلثوم، محوِّلًا المشهد إلى مساحة تواصل بين الفنان والمتلقى.
ويوضح عبد الظاهر أنه لم يرغب فى الاكتفاء بتقديم صورة مألوفة للست وهى تغنى، بل سعى لأن تتحول اللوحة إلى تجربة تجمع بين الفكر والجمال، يجد فيها البسيط ما يلامس وجدانه، ويقرأ فيها المثقف نصًا بصريًا غنيًا بالرموز والدلالات، إيمانًا منه بأن الفن الحقيقى لا يعرف حواجز ولا يكتفى بلون واحد من ألوان الروح.
أما مصطفى رحمة، فقد سبق أن خصص أحد معارضه السابقة لجمهور الست، معبِّرًا من خلاله عن المزاج المصرى الأصيل، مؤكدًا على عمق الثقافة السمعية التى صاغت وجدان المصريين ووحّدت أذواق طبقاتهم المختلفة.
فى كل شارع وزقاق
الفنان عماد إبراهيم سبق وأن قدم أم كلثوم مستلهماً تجربة الثقافة السمعية لعمال البناء الذين لا يعملون دون الاستماع لأغانيها. يقول: «تًعتَبر أم كلثوم ظاهرة تتميز بها الحياة فى مصر بكل أبناء طبقاتها المختلفة، الشعبيين والريفيين والبسطاء، وأيضاً الطبقات الراقية تمثل الموسيقى التصويرية لكل شارع وزقاق فى مصر فهى دائما موجودة وتمتزج بها الشخصية المصرية».
إن الهدف كذلك من إقامة معرض «صوت مصر» لم يكن تناول شخصية وفن وحياة أم كلثوم، أو مجرد تقديم وجه آخر لهذه الشخصية الفريدة، كما يشير الفنان على سعيد مدير عام مراكز الفنون والمسئول عن رؤية وفلسفة العرض، بل كان السعى لاكتشاف كيف استطاعت هذه الأيقونة الغنائية أن تسكن الذاكرة البصرية لفنانين من أجيال ومدارس فنية مختلفة، مثلما استطاعت أن تسكن وجدان كل مصرى، وأن تكون جزءاً هاماً وحاضراً بقوة داخل العقل الجمعى للشعب المصرى والشعوب العربية والشرق بأسره، وأن تظل مصدر إلهام حى ومتجدد رغم مرور نصف قرن على رحيلها.
وما يميز هذا المعرض عن غيره من المعارض التى تناولت شخصية كوكب الشرق، والكلام لسعيد، هو أنه لا يقف عند حدود التوثيق أو الاحتفاء التقليدى، بل ينطلق من رؤية بحثية وفنية معاً، تفتح الباب أمام أسئلة جديدة حول أثرها الثقافى العابر للزمن.
والحقيقة أن جانباً مهماً من المعرض يقوم على نتاج جهد بحثى متعمق ليس فى الفن وحده لمحاولة رصد وتوثيق التجارب الفنية المتنوعة التى تناولت أم كلثوم، بل كذلك فى المقالات والصحف مما منح الزوار فرصة للتعرف إلى صورة أم كلثوم عبر الزمن.
وهو ما استغرق شهوراً طويلة من البحث والتنقيب، كما يشير سعيد، حيث تم تتبع حضور هذه الشخصية الفريدة فى الصحافة القديمة من خلال أرشيف مكتبة البلدية، التى ضمت جنباتها عشرات الآلاف من الصفحات عنها منذ انطلاقتها الفنية فى العشرينيات.
تحفة فنية
وأريد فى هذا الصدد أن أتوقف كذلك عند الكتاب الذى صدر رفيقاً للعرض وأعتبره تحفة فنية بما يضمه من صور وثائق وتوثيق للأعمال الفنية التشكيلية التى تناولت أم كلثوم، والأجمل إتاحته للزوار عبر المسح الضوئى لبار كود يمكنهم من الحصول على نسخة إلكترونية مع دخولهم المعرض.
وقد اعتمد د.إسلام عاصم عبد الكريم المسئول عن البحث التاريخى والتوثيق فى إعداد الكتاب بشكل رئيسى على الصحف والمجلات التى عاصرت حضورها. يعلق: «وثقت تلك القصاصات والصور بصدق وبدون ادعاء دهشة الجمهور وعظمة العصر.
إنها نوافذ الزمن الحقيقى، التى أظهرت نبض الجمهور، وخطاب الثقافة، وموقع أم كلثوم من المشهد الفنى والاجتماعى آنذاك.
إن هذه المواد، على ما قد تحمله من تباين فى الدقة أو الانحياز، تشكل أرشيفاً غير رسمى لكنه صادق، ومفعم بالحيوية، اخترنا المنهج التاريخى بقدر من الحذر دون إسهاب بل بحرص.
هكذا ولد هذا الكتاب لا بوصفه سرداً موسوعياً، ولا دراسة تحليلية، بل كرفيق للعين والقلب يشكل مادة مصاحبة لمعرض بصرى وروحى يقرأ كما يشاهد المعرض بتوق إلى ما لا يقال، وبإيمان بأن فى صوت أم كلثوم ما يغنى عن كل تعليق، ينصت فيه الزائر إلى الصور والنصوص كما ينصت إلى صوتها: بقدر من الإجلال، لا يطلب الشرح بقدر ما يبحث عن المعنى».
ثراء بصرى
أمر أخير أردت أن أتحدث عنه يتجلى فى سعادتى بحالة التشبيك الثقافى التى ترعاها وزارة الثقافة، عبر تعاون مثمر بين قطاعاتها المختلفة والمقتنين والقاعات الخاصة، وهو ما منح المعرض هذا التنوع والثراء البصرى والإنسانى.
فبخلاف الصحف وبوسترات الأفلام وتذاكر الحفلات والصور النادرة والتسجيلات الصوتية وبعض الكتب والمقتنيات الشخصية النادرة التى أعارها المقتنون خصيصًا للمعرض، وكذلك جانب من مذكراتها التى رسمها الفنان بيكار فقد تم استعارة مجموعة من المقتنيات النادرة من متحف أم كلثوم بالمنيل، من بينها بعض من فساتينها وأحد الأحذية والحقائب ونظاراتها الشهيرة وغير ذلك.
ويأتى هذا التعاون مع العديد من الجهات من بينها متحف أم كلثوم وقطاع صندوق التنمية الثقافية وكذلك مكتبة البلدية بالإسكندرية ليتيح للزائرين فرصة فريدة للتواصل مع إرث أم كلثوم الإبداعى والإنسانى، فى تجربة ثقافية متكاملة تُعيد تقديمها ليس فقط كصوت خالد، بل كمعادل لصوت مصر الثقافى والإبداعى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.