منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، ظل موقف روسيا حادًا في ظل محاولات كييف الانضمام إلي حلف شمال الأطلسي "الناتو"، إذ كان في حقيقة الأمر من ضمن الأسباب الرئيسية لبدء الصراع، مُعتبرة انضمامها تهديدًا لأمنها القومي. لكن المثير للاهتمام أنها لم تبدِ الموقف ذاته في انضمام كييف للإتحاد الأوروبي رغم معارضتها للأمر في البداية، إلا أنه لا يعكس تبدلاً في الآراء لكنه نوعًا من البعد الاستراتيجي لروسيا، سعيًا منها لتقليل الخسائر وتجنب المواجهة العسكرية مع الغرب عند خطوط التماس الأكثر حساسية. ومن هنا يكمن السؤال: ما الذي يجعل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين أكثر استعدادًا للتعايش مع اندماج أوكرانيا في الاتحاد الأوروبي في وقت يرفض فيه أي تقارب مع الناتو؟ اقرأ أيضًا| تحول استراتيجي مُرتقب.. «الأمن الأوروبي خارج عباءة أمريكا» محادثات ما بعد قمة واشنطن خلال المحادثات الأخيرة بين القادة الأوروبيين لاستعراض حلول ما بعد قمة واشنطن، وتبادل الأراضي والضمانات الأمنية، ضاعت قضية أكثر أهمية وفق تحليل لجورج بيبي المتخصص في الشأن الروسي لمجلة «ريسبونسبل ستاتكرافت»، حول ما إذا كان الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين مستعدًا لقبول عضوية أوكرانيا بالاتحاد، كجزء من التسوية من عدمه ، حيث كان هذا التنازل عنصرًا مهمًا في اتفاق السلام الذي صاغه المفاوضون الروس والأوكرانيون بوساطة تركية في عام 2022، والذي تخلت عنه أوكرانيا لاحقًا. ومنذ ذلك الحين، عارض بعض المسؤولين الروس هذه العضوية، لكن تصريحات المتحدث باسم الكرملين، أشارت في وقت سابق من هذا العام، أن روسيا لن تعترض. ثم، خلال اجتماعه في البيت الأبيض مع الرئيس الأوكراني، فلاديمير زيلينسكي والقادة الأوروبيين، أجرى الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب مكالمتين هاتفيتين،الأولي إلى بوتين، والثانية إلى رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان لحث المجر على تخفيف معارضتها لعملية انضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي. لماذا يقدم بوتين تنازلا؟ من منظور الكرملين هناك فرق كبير بين انضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي والناتو، إذ قد يترك التحاقها بالاتحاد أن تكون محايدة عسكريًا، راسخة سياسيًا واقتصاديًا مثل النمسا وأيرلندا، ما يضعها أمام عدد من الاحتمالات: - أبرز الاحتمالات، بالطبع، هو أن روسيا تشك في أن أوكرانيا ستنجح في اجتياز عملية الانضمام المعقدة، إذ أن المجر ليست وحدها من تعبر عن مخاوفها بشأن عضوية أوكرانيا، حيث تشعر كل من بولندا وفرنسا بالقلق بشأن تأثير الإنتاج الزراعي الأوكراني على قطاعاتهما الزراعية، ويخشى آخرون من أن تكون أوكرانيا استنزافًا مكلفًا وفاسدًا للخزائن الأوروبية. ولكن في حين أن الشكوك الروسية قد تكون مبررة، إلا أنها لا تعني اليقين بأن أعضاء الاتحاد الأوروبي سيغلقون الباب أمام كييف. إذ وفق بيبي، من الممكن أن بوتين توقع أن الولاياتالمتحدة ستبدأ على الفور تقريبًا في الضغط على شركائها الأوروبيين لتسريع عملية الانضمام، إن التظاهر بقبول عضوية أوكرانيا سيكون مخاطرة ، محذرا في الوقت ذاته، أنها قد ترتد بنتائج عكسية على موسكو بسهولة. البراغماتية البسيطة - الاحتمال الثاني: وهو الأكثر ترجيحًا هو البراغماتية البسيطة، لقد أثبت الجيش الروسي بالفعل عدم قدرته على السيطرة على أوكرانيا بأكملها، حيث فشلت محاولته الأولية للسيطرة على كييف عبر هجوم سريع على مطار أنتونوف في استغلال تحذيرات الاستخبارات الأمريكية المسبقة ومقاومة أوكرانيا الشجاعة. ونتيجةً لذلك، اضطرت قوة الهجوم الروسية، إلى التراجع وإعادة تنظيم صفوفها وتركيز جهودها على شرق أوكرانيا وجنوبها. وحتى لو تمكنت روسيا من الهجوم على أوكرانيا بأكملها - أكبر إقليم وطني بالكامل في أوروبا - فلن يكون لديها أمل يُذكر في حكمها، بالإضافة إلي ذلك، حتى لو تمكنت روسيا بطريقة ما من السيطرة على مساحة أوكرانيا الشاسعة، فسيظل عليها مواجهة تحالف "الناتو" الذي تضاعف حجمه منذ نهاية الحرب الباردة، والذي يُنعش أعضاؤه الأوروبيون صناعاتهم العسكرية المتهالكة ويتعهدون ببناء قدراتهم القتالية لأول مرة منذ عقود. كما أعلنت الولاياتالمتحدة، عن خطط لنشر صواريخ متوسطة المدى ذات قدرة نووية في ألمانيا لأول مرة، منذ توقيع رونالد ريجان وميخائيل جورباتشوف معاهدة القوى النووية متوسطة المدى التي حظرتها عام 1987 - وهي صواريخ يمكنها الوصول إلى أهداف استراتيجية في دقائق مع احتمال كبير للتغلب على الدفاعات الصاروخية الروسية. اقرأ أيضًا| تحليل غربي يحذر: روسيا قد تنقل معركتها لقلب أوروبا إذا توقف النزاع مع أوكرانيا سيناريوهات بديلة ربما يُدرك بوتين أن استعداده للتعايش مع عضوية أوكرانيا المحتملة في الاتحاد الأوروبي هو ثمنٌ ضروري لتجنب مثل هذا السيناريو، والتوصل إلى اتفاق سلام أوكراني يعتبره بوتين ضروريًا للأمن الروسي. أولها وأهمها: هو دفع الولاياتالمتحدة لإغلاق باب انضمام أوكرانيا إلى حلف شمال الأطلسي "الناتو" أو استضافة قوات قتالية تابعة له على أراضيها، وهي مطالب عبر عنها المسؤولون الروس لعقود، وكانت من بين العوامل الرئيسية التي حفّزت الهجوم الروسي. ثانيها: هو إحياء المفاوضات المتعلقة بالأمن الأوروبي والحد من الأسلحة النووية، والتي من شأنها أن تُقلّل من التهديدات التي تواجهها روسيا. وستكون هذه أثمانًا زهيدة تدفعها الولاياتالمتحدة لترسيخ أوكرانيا في أوروبا سياسيًا واقتصاديًا. تنازل واشنطنلموسكو وفي سياق تعزيز البعد الاستراتيجي لواشنطن، يقول بيبي، رغم أن كل رئيس أمريكي منذ جورج دبليو بوش أبدى رفضه إرسال قوات أمريكية لقتال روسيا دفاعًا عن أوكرانيا وجورجيا، فإن الالتزام الرسمي بإنهاء توسع "الناتو" شرقًا لن يكون تنازلًا لروسيا بقدر ما هو اعتراف بوضع قائم. كما أن الدخول في محادثات الحد من الأسلحة مع روسيا، ووضع أوروبا على مسار الاستقرار، وتقليل اعتماد موسكو على الصين، من شأنه أن يُعزز أمن أمريكا، لا أن يُضعفه، حتى لو اتسمت عملية الانضمام بالصعوبة، فإنها قد تعزز سيادة أوكرانيا وازدهارها وتعافي مجتمعها، وهو أمر بالغ الأهمية لقدراتها الدفاعية الذاتية في المستقبل. ويستخلص الكاتب لما سبق، إن التفاؤل بمستقبل أوكرانيا قد يشجع أعدادًا كبيرة من ملايين اللاجئين الذين فروا من الحرب على العودة إلى ديارهم ووقف الانهيار الديموغرافي في البلاد، وستسمح شروط العضوية لأوكرانيا بالمضي قدمًا في إصلاحات تحمي الأقليات الناطقة بالروسية وتحد من التطرف السياسي دون أن تبدو وكأنها تستسلم لمطالب موسكو. والأهم من ذلك، نظرًا لشبه استحالة عضوية الناتو، فإن احتمال الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي قد يكون أفضل أمل لإقناع مواطني أوكرانيا بأن تسوية سلمية توافقية تستحق الدماء التي ضحوا بها على مدى السنوات الثلاث الماضية في الحرب الروسية الأوكرانية. واستبدال الحياد العسكري لأوكرانيا باحتمالية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي لن يكفي وحده لإنهاء هذه الحرب المأساوية، ولكنه حل وسط ينبغي على ترامب وأوروبا وأوكرانيا قبوله، بحسب تعبيره.