كنت أتابع العرض العسكرى الصينى الأخير وكأننى أشاهد فيلماً من أفلام الخيال العلمى، لم يكن مجرد استعراض دبابات وصواريخ، بل رسائل عسكرية وسياسية وأيضًا رمزية. أول ما شد انتباهى هو حجم الأسلحة التى كشفتها بكين، الصواريخ العابرة للقارات والغواصات المُسيّرة وأنظمة الليزر، وحتى الصواريخ الفرط صوتية.. وكلها تقول للعالم: لقد صرنا قوة عالمية عظمى، ولسنا مجرد «مصنع العالم» الذى ينتج الماركات المُقلدة. وتعددت المشاهد الدرامية وأكثرها إثارة جلوس الرئيس الروسى فلاديمير بوتين وزعيم كوريا الشمالية كيم جونج أون إلى جانب الرئيس شى جين بينج، وهذا الثلاثى لم يجتمع صدفة، بل أرادوا أن يقولوا للولايات المتحدة والغرب «توازن القوى يتشكل من جديد»، والبعض وصفه ب«مثلث الرعب»، لكننى أراه أقرب إلى خريطة واقعية عن تعددية الأقطاب فى السنوات القادمة. ردود الفعل فى واشنطن كانت متوقعة، الرئيس دونالد ترامب علّق بسخريته المُعتادة، لكن خلف المزاح كان هناك توتر حقيقى، العرض لم يكن مجرد احتفال بالنصر فى الحرب العالمية الثانية، بل رسالة مباشرة إلى أمريكا «انتهى عصر القطب الأوحد». وجذبنى أيضاً بشدة الحوار الجانبى الذى التقطته الميكروفونات بين شى وبوتين عن إمكانية أن يعيش الإنسان 150 سنة، وقد يبدو الأمر عابرًا، لكنه إشارة عميقة بأن التنافس لن يكون فقط على الصواريخ والطائرات، بل أيضًا على علوم الحياة وتعديل الجينات. الصين تكتسح العالم فى علوم الجينات، وسبق أن تحدثت تقارير علمية عن أنها تعمل على مشاريع لتطوير «الإنسان المُحسّن جينيًا»، سواء كانت صحيحة أو مجرد خيال، فإن مجرد تداولها يكشف طبيعة الصراع فى المستقبل. ووسط كل هذه الدلالات السياسية والعسكرية، لا يمكن إنكار الجاذبية البصرية للعرض، المجندات الجميلات بزيهن الأنيق والجنود الشباب بخطواتهم المتناغمة والانضباط المدهش، وكلها رسائل بصرية مقصودة، وأن الصين أرادت أن تقول نحن لسنا فقط أقوياء، بل أيضًا منظّمون وجذّابون وقادرون على أن نلهم الشعوب. من وجهة نظرى، العرض العسكرى الأخير هو إعلان رسمى عن مرحلة جديدة فى النظام العالمى، ولم يعد ممكنًا الحديث عن أمريكا كقوة منفردة، والصين الآن فى الصف الأول، ومعها: روسياوكوريا الشمالية وربما لاحقًا قوى أخرى، والعالم يتغيّر وعلينا أن نعترف بأن عالمًا جديدًا يتشكل ببطء. قد يتفق البعض أو يختلف حول حق الصين فى لعب هذا الدور، لكن لا أحد يمكنه إنكار حقيقة بسيطة، بكين لم تعد مجرد متفرج فى مسرح السياسة العالمية، بل صارت أحد كبار المخرجين الذين يرسمون المشهد. وبالنسبة لنا كعرب، ما يجرى ليس مجرد مشهد بعيد، والتحولات الكبرى فى ميزان القوى ستؤثر مباشرة، فى الاقتصاد والطاقة وممرات التجارة، والصين اليوم هى الشريك التجارى الأول للعديد من الدول العربية، ومع صعودها كقوة عسكرية وسياسية، قد يحدث إعادة توزيع للأدوار والتحالفات فى المنطقة، والسؤال المطروح: هل تكتفى الدول العربية بمشاهدة الفيلم من بعيد أم تستعد للمشاركة فيه كلاعبين حقيقيين؟