خالد محمود يكتب : كيف استمر « الرقم الأصعب » فى الغناء العربى لعقود ؟

في ‬زمن ‬تتغير ‬فيه ‬الأذواق ‬الفنية ‬بوتيرة ‬متسارعة، ‬ويصعد ‬فيه ‬نجم ‬ويخبو ‬آخر ‬بين ‬عشية ‬وضحاها، ‬يبقى ‬عمرو ‬دياب ‬استثناءً ‬فنيًا ‬نادرًا ‬ومتجددا. ‬
فمنذ ‬أوائل ‬الثمانينات ‬وحتى ‬اليوم، ‬لم ‬يغادر ‬قمة ‬الغناء ‬العربي، ‬ليس ‬فقط ‬كمغنٍ ‬ناجح، ‬بل ‬كظاهرة ‬متفردة ‬تتحدى ‬الزمن، ‬والمنافسة، ‬وتغير ‬الأذواق.‬
بل ‬استطاع ‬أن ‬يعيد ‬تشكيل ‬ملامح ‬الموسيقى ‬الحديثة، ‬وأن ‬يخلق ‬لنفسه ‬قالبًا ‬خاصًا ‬ينافس ‬فيه ‬نفسه ‬فقط.‬
فما ‬الذي ‬فعله ‬"الهضبة" ‬ولم ‬يفعله ‬غيره؟، ‬كيف ‬استطاع ‬أن ‬يتحول ‬من ‬مطرب ‬شاب ‬في ‬الثمانينات ‬إلى ‬"الرقم ‬الأصعب" ‬في ‬معادلة ‬الغناء ‬العربي ‬حتى ‬اليوم؟
وهل ‬هي ‬الموهبة ‬وحدها ‬التي ‬صنعت ‬هذا ‬"الدوام ‬الفني"؟، ‬محافظًا ‬على ‬شعبيته ‬في ‬ظل ‬تحولات ‬العصر؟
لابد ‬أن ‬نقف ‬عند ‬عدة ‬نقاط، ‬أولها ‬"التطور ‬الموسيقي ‬الذكي"، ‬فهو ‬يجدد ‬موسيقاه ‬بإستمرار، ‬والواقع ‬أن ‬التجديد ‬دون ‬تنازل ‬معادلة ‬فنية ‬لا ‬يتقنها ‬إلا ‬القلائل، ‬فالقاعدة ‬الذهبية ‬في ‬الفن ‬هي: ‬"جدد ‬أو ‬تختفِ"، ‬لكن ‬التجديد ‬في ‬الغناء ‬العربي ‬محفوف ‬بالمخاطر، ‬فكل ‬محاولة ‬قد ‬تكسبك ‬جمهورًا ‬جديدًا ‬أو ‬تفقدك ‬القديم.‬
عمرو ‬دياب ‬تفوّق ‬لأنه ‬جدد ‬دون ‬أن ‬يتنازل ‬عن ‬هويته، ‬أدخل ‬إيقاعات ‬غربية، ‬ودمج ‬أصواتًا ‬لاتينية، ‬ولامس ‬الساوند ‬الإلكتروني، ‬لكنه ‬حافظ ‬على ‬الروح ‬المصرية ‬في ‬الكلمة ‬واللحن.‬
لم ‬يركض ‬خلف ‬"الموضة"، ‬بل ‬كان ‬هو ‬من ‬يصنعها، ‬وهذا ‬سر ‬استمراريته ‬والنتيجة ‬جذب ‬أذواق ‬مختلفة ‬من ‬كل ‬الأجيال، ‬فأغنية ‬مثل ‬"تملي ‬معاك" ‬جمعت ‬بين ‬اللحن ‬الشرقي ‬والساوند ‬العالمي، ‬ونجحت ‬عربيًا ‬ودوليًا، ‬وأغنية ‬"أماكن ‬السهر" ‬استخدمت ‬موجة ‬"التراب" ‬بطريقة ‬تناسب ‬ذوق ‬جمهوره ‬العريض.‬
النقطة ‬الثانية، ‬هي ‬استيعاب ‬التحول ‬الرقمي، ‬فهو ‬من ‬أوائل ‬من ‬استغلوا ‬الإنترنت، ‬التطبيقات، ‬الشراكات ‬مع ‬الشركات ‬والمنصات، ‬يتعامل ‬مع ‬فنه ‬كمشروع ‬رقمي ‬متكامل، ‬لا ‬كألبوم ‬تقليدي ‬ليظل ‬متصدرًا ‬في ‬عالم ‬تغيّرت ‬فيه ‬وسائل ‬الاستماع ‬كليًا.‬
هنا ‬ينطلق ‬العقل ‬المدبر: ‬ذكاء ‬فني ‬واستراتيجي ‬خارج ‬المألوف، ‬خلف ‬كل ‬خطوة ‬لعمرو ‬دياب، ‬هناك ‬خطة ‬مدروسة ‬بدقة، ‬لا ‬يطرح ‬ألبومًا ‬إلا ‬في ‬توقيت ‬محسوب، ‬لا ‬يختار ‬أغنية ‬إلا ‬بعد ‬اختبارها ‬على ‬أكثر ‬من ‬مستوى، ‬لا ‬يكرّر ‬نفسه ‬حتى ‬لو ‬طالبه ‬الجمهور.‬
‬بل ‬أكثر ‬من ‬ذلك، ‬يدير ‬مسيرته ‬ك"براند"، ‬لا ‬مجرد ‬مطرب، ‬من ‬تعاونه ‬الحصري ‬مع ‬شركات ‬كبرى، ‬إلى ‬ظهوره ‬في ‬حملات ‬تسويق ‬عالمية، ‬إلى ‬حجزه ‬حفلاته ‬بإعلانات ‬تشويقية ‬كبرى.. ‬عمرو ‬دياب ‬لا ‬يتحرك ‬عشوائيًا.‬
ربما ‬أعظم ‬ما ‬يميز ‬عمرو ‬دياب ‬أنه ‬يعرف ‬ماذا ‬يريد ‬الجمهور ‬قبل ‬أن ‬يعرف ‬الجمهور ‬نفسه.‬
في ‬كل ‬ألبوم، ‬هناك ‬أغنية ‬تصبح ‬حديث ‬الناس، ‬رغم ‬أنها ‬لم ‬تكن ‬متوقعة. ‬لأنه ‬لا ‬يصنع ‬"ما ‬هو ‬دارج"، ‬بل ‬"ما ‬سيصبح ‬دارجًا".. ‬يسبقنا ‬بخطوة، ‬يختار ‬الكلمات ‬التي ‬تُقال ‬في ‬البيوت ‬والشوارع، ‬لكنها ‬تُقال ‬بصوت ‬فني ‬راقٍ ‬لا ‬يستعلي ‬على ‬جمهوره، ‬لكنه ‬لا ‬ينزل ‬لمستوى ‬الاستسهال.‬
النقطة ‬الأخرى، ‬هي ‬التحول ‬الرقمي ‬الذكي، ‬فبينما ‬واجه ‬الفنانون ‬صعوبة ‬في ‬الانتقال ‬من ‬عصر ‬الكاسيت ‬إلى ‬المنصات ‬الرقمية، ‬كان ‬عمرو ‬سبّاقًا، ‬أطلق ‬ألبوماته ‬حصريًا ‬على ‬شركات ‬المحمول ‬والتطبيقات، ‬بنى ‬قاعدة ‬جماهيرية ‬رقمية ‬على ‬وسائل ‬التواصل ‬قبل ‬غيره، ‬تعامل ‬مع ‬نفسه ‬ك"مشروع ‬متكامل"، ‬له ‬إدارة ‬وحقوق ‬وملكية ‬فكرية.‬
ففي ‬زمن ‬تتحكم ‬فيه ‬الأرقام، ‬لم ‬يكن ‬حضوره ‬مجرد ‬"رغبة ‬جماهيرية"، ‬بل ‬نتيجة ‬تخطيط ‬مؤسسي ‬محكم.‬
النقطة ‬الأخرى، ‬هي ‬الحفاظ ‬على ‬"الصورة ‬الشبابية"، ‬بدء ‬من ‬مظهره ‬الخارجي ‬كأحد ‬أدوات ‬نجاحه: ‬ليس ‬بشكل ‬سطحي، ‬بل ‬كتعبير ‬عن ‬الطاقة ‬والشباب ‬والقدرة ‬على ‬مواكبة ‬العصر: ‬رياضي، ‬عصري، ‬يصنع ‬أيقونات ‬بصرية ‬مع ‬كل ‬ألبوم ‬جديد ‬ليحتفظ ‬بصورة ‬النجم ‬الشاب ‬مهما ‬تقدّم ‬في ‬العمر، ‬لتبقى ‬الرسالة ‬التي ‬تصل ‬للجمهور: ‬"أنا ‬واحد ‬منكم ‬مهما ‬تغير ‬الزمن".‬
تكوينه ‬قاعدة ‬جماهيرية ‬متعددة ‬الأجيال، ‬جيل ‬الثمانينات ‬يعتبره ‬رمزًا، ‬وجيل ‬الألفينات ‬يتعامل ‬معه ‬كأيقونة ‬البوب، ‬جيل ‬ال"تيك ‬توك" ‬يستخدم ‬أغانيه ‬في ‬مقاطعهم.. ‬والنتيجة ‬لا ‬يُختصر ‬في ‬جيل، ‬بل ‬يمتد ‬عبر ‬الأجيال.‬
الابتعاد ‬عن ‬الصراعات ‬والجدل، ‬ففي ‬عصر ‬يتغذى ‬على ‬"الترندات" ‬السطحية ‬والمهاترات، ‬اختار ‬عمرو ‬أن ‬يبقى ‬فوق ‬الضوضاء: ‬لا ‬يرد ‬على ‬النقد، ‬لا ‬يدخل ‬في ‬صراعات ‬مع ‬زملائه، ‬لا ‬يهاجم ‬فنونًا ‬جديدة ‬مثل ‬المهرجانات ‬أو ‬الراب، ‬بل ‬يثبت ‬أنه ‬"يقدر ‬ينافسها ‬فنًا".‬
ما ‬فعله ‬عمرو ‬دياب ‬لا ‬يُقاس ‬فقط ‬بعدد ‬الألبومات ‬أو ‬الحفلات ‬أو ‬الجوائز، ‬بل ‬بما ‬هو ‬أعمق: ‬بقدرته ‬على ‬أن ‬يكون ‬صديقًا ‬لصوت ‬كل ‬جيل، ‬مرآةً ‬لذوق ‬الشارع، ‬ومرجعًا ‬للفن ‬المتقن.‬
لم ‬يكن ‬مجرد ‬مغنٍ ‬ناجح، ‬بل ‬مؤسسة ‬فنية ‬ضخمة ‬تتجدد، ‬تتطور، ‬وتستمر، ‬والأهم... ‬أنه ‬حتى ‬الآن، ‬لا ‬يزال ‬الرقم ‬الأصعب.‬