لم تكن القصة مجرّد خبر عابر عن «إغلاق مبنى» في نهاية عطلة صيفية، بل لحظة اختبار صريح لمعنى التزامات الدول تجاه البعثات الدبلوماسية ولحدود «حرية التظاهر» حين تلامس حرمة السفارات، فبعد أسابيع من احتجاجات ضاغطة ومتكررة أمام سفارة مصر في لندن - رافقها شدّ وجذب وحادث توقيف المواطن المصري المؤيِّد للحكومة خارج البعثة - صعّدت القاهرة خطابها وطلبت إيضاحات رسمية من لندن، ثم أزالت السلطات المصرية الحواجز الأمنية المحيطة بالسفارة البريطانية فى جاردن سيتى، هنا اتخذت لندن قرارًا بإغلاق المبنى الرئيسى مؤقتًا «لحين مراجعة أثر التغييرات»، فظهرت الصورة كاملة: مصر تقول إن حماية البعثات التزامٌ قانونى متبادل لا شعارات انتقائية، وإن المعاملة بالمثل ليست نزقًا، بل أداة لتصحيح ميزانٍ اختلّ. زمنيًا، سارت الوقائع على نحوٍ يكشف تناقضًا بريطانيًا لا يمكن تجاهله، فى 26 أغسطس 2025 عبّرت الخارجية المصرية -هاتفياً مع مستشار الأمن القومى البريطانى - عن «قلق عميق» إزاء توقيف مواطن مصرى فى لندن أمام مبنى السفارة، مطالبةً بتوضيحات سريعة؛ كان ذلك فى سياق تظاهرات متكررة حول البعثة المصرية لم تمضِ أيام حتى أعلنت السفارة البريطانية فى القاهرة الأحد الماضى، إغلاق المبنى الرئيسى مؤقتًا بعد إزالة الحواجز المحيطة به، على أن تظل الخدمات القنصلية الطارئة متاحة، هكذا بدا المشهد: لندن التى تتساهل فى محيط سفارة مصر لديها، تشعر بالقلق حين تعيد القاهرة ترتيب محيط سفارتها هى، أى ميزان هذا؟ ليس المقصود هنا تسجيل نقاطٍ فى مباراة علاقات عامة، بل إضاءة فجوةٍ بين خطابٍ مثالى وممارسةٍ واقعية فمن جهة، تُفاخر بريطانيا بنموذج «مدينةٍ مفتوحة للاحتجاج»، لكن الوقائع خلال الأشهر الماضية أظهرت انتقائية فى التنظيم والردع؛ إذ تصاعدت الاحتجاجات أمام البعثات العربية، وبينها سفارة مصر فى لندن، وسط انتقادات لطريقة تعامل الشرطة واتهامات «بالمعايير المزدوجة» فى المقابل، حين اتخذت القاهرة خطوة سيادية داخل نطاقها - إزالة حواجز محيطة وإعادة تقييم ترتيبات التأمين - لم تُغلق السفارة البريطانية قسرًا، بل قررت هى من جانبٍ واحد تعليق عمل المبنى لمراجعة ترتيباته، القرار قرارها؛ والنتيجة رسالةٌ مضاعفة: حماية البعثات ليست امتيازًا يمنحه طرفٌ للآخر، إنما التزام متبادل، ومن يقصِّر فى حماية بعثات غيره لا ينبغى أن يتوقع معاملةً استثنائية لبعثته. على طاولة التحليل الهادئ، تبدو القاهرة وكأنها تُعيد تعريف «المعاملة بالمثل» كأداة ضبطٍ رشيقة لا كعقوبةٍ انفعالية لم تُصعّد إلى مستوى الطرد أو تخفيض التمثيل، ولم تُقيد حركة الدبلوماسيين، بل أجرت تعديلًا فى محيطٍ مادى محكومٍ بسيادة الدولة، الرسالة أعمق من ظاهرها: إذا كان أمن البعثات أولويةً مشتركة، فليكن ذلك للجميع دون استثناء؛ وإذا كانت الحشود حول السفارات تحتاج انضباطًا يحفظ الحق فى الاحتجاج ولا يهدد حرمة المبانى، فلتتحمل لندن - كما القاهرة - مسئولية تحقيق هذا الميزان، إن استدعاء نصوص فيينا هنا ليس تكتيكًا خطابيًا، بل عودة إلى أصل العقد الدبلوماسى الذى يجعل الحماية «واجبًا خاصًا» لا خيارًا سياسيًا ظرفيًا. اللغة المتزنة لا تمنع موقفًا حازمًا: مصر لا تُجرِّم الاحتجاج السلمى، لكنها ترفض أن تتحول محيطات البعثات إلى مناطق رمادية تُعلَّق فيها الالتزامات بدعوى «الحقّ فى التعبير»، كما أنها لا تبحث عن اشتباكٍ مجانى مع لندن، لكنها تُذكّر بحقائق «العقد» الذى ارتضته الدول: حمايةٌ كاملة للمبانى والأفراد، وعدم تعريض البعثات للترهيب أو التعطيل وما فعلته القاهرة فى جاردن سيتى هو تحديدًا دفعُ هذا النقاش إلى مربّعه الصحيح: إذا أردتم منا أقصى درجات الحماية، فأرونا فى لندن وأخواتها الحدَّ ذاته من الجدية والتنفيذ. في الخلاصة، ما يجرى ليس «معركة مصر مع بريطانيا» بقدر ما هو امتحانٌ لصدقية نظامٍ دولى يقوم على قواعد لا على أهواء، لقد أحسنت القاهرة استخدام أدواتٍ قانونية وسياسية هادئة، وأبقت الباب مفتوحًا لعودة هادئة إلى الوضع المعتاد فور توفُّر ضمانات متبادلة واضحة، وعلى لندن، إذا أرادت استعادة نبرة «المعلّم الأخلاقى»، أن تُثبت أولًا أنها تُحسن حماية ما التزمت بحمايته، وأن «حرية الاحتجاج» عندها لا تُقرأ بوصفها رخصةً لتقويض حرمة البعثات لا نأسف للإزعاج... لكننا نأسف للعالم حين ينسى أن القانون ليس شعارًا يُرفع فى المؤتمرات، بل التزامٌ يُطبَّق بالتساوى على الجميع، وإلا فقدَ معناه.