ينشغل الباحثون بإيجاد بدائل للدقيق الذى يدخل في صناعة الخبز، وخلال السنوات الأخيرة برزت عدة أفكار من بينها الطحين المصنوع من البطاطا، لكنها لم تدخل حيز التنفيذ حتى الآن، ولم تكن عملية البحث عن البدائل جديدة، فقبل نحو 64 عامًا شهدت قرية «الكُنيسة» بمحافظة بالجيزة تجربة ثبت نجاحها لإنتاج دقيق من بذرة القطن، فوائده تفوق البيض واللحوم.. ووقتذاك نشرت «آخرساعة» تقريرًا أعده الكاتب الصحفي الراحل صلاح جلال، نعيد نشره بتصرف محدود فى السطور التالية: خير جديد يقدمه القطن المصرى لصديقه الفلاح، ولكل الناس فى بقية أنحاء الدنيا.. دقيق جديد من بذرة القطن يفوق فى قيمته الغذائية اللحوم والبيض ويعوّض نقص البروتين فى غذاء الفلاحين. والدقيق الجديد يكفى أن نضيف معه نسبة قليلة إلى الدقيق العادى ليتحول الخبز إلى غذاء مفيد يحوى كل ما يلزم جسم الإنسان من بروتين، وهو قريب من لون الحلبة التى تضاف إلى دقيق الذرة الذى يستعمله الفلاحون، والنسبة لا تزيد على 10% من كمية الدقيق الموجود فى الخبز، ونجحت التجارب التى استمرت عامًا كاملًا فى قرية «الكُنيسة» بالجيزة. وقام معهد التغذية، التابع لوزارة الصحة بهذه التجربة المثيرة، وتمت بنجاح، وثبتت فائدة الدقيق الجديد بعد إضافته للدقيق العادى، سواء أكان دقيق الذرة أم دقيق القمح ولم يتغيّر لون الخبز ولا طعمه، واستساغه فلاحو قرية الكُنيسة، وتلاميذ مدرستها، وبعد فحصهم طبيًا قبل وأثناء وبعد التجربة، ثبت تحسن صحتهم، وزيادة أوزانهم واختفاء مرض البلاجرا الذى كان ناتجًا عن سوء التغذية، وأكثر من هذا زاد نمو الأطفال بدرجة كبيرة، وارتفعت نسبة لبن الأمهات، بعد التغذية بالخبز المضاف إليه دقيق بذرة القطن. ■ معهد التغذية يجرى اختبارات بذور القطن ◄ بنصف الثمن واهتمت الهيئات الدولية بهذه الأبحاث وطلبت نتائج التجربة بعد إتمامها، وقد أرسلت النتائج فعلًا إلى منظمة الصحة العالمية، ومنظمة إغاثة الطفولة ومنظمة الأغذية والزراعة. والغريب أن الكيلوجرام من هذا الدقيق المستخرج من بذور القطن، لا يتكلف أكثر من 18 مليمًا، بينما ثمن الكيلوجرام من الدقيق العادى 35 مليمًا، وإن كان دقيق القطن لا يستعمل وحده، بل يضاف بنسبة 10% إلى الدقيق العادى بمعنى أن قُفّة واحدة من دقيق بذرة القطن تضاف إلى 10 قُفف من الدقيق العادى المستعمل فى صنع الخبز، سواء خبز الذرة أو القمح. ◄ أرخص من اللحوم وقد دعانى الدكتور إسماعيل عبده، مدير معهد التغذية بوزارة الصحة، لأجرب الخبز الجديد، ولم أحس بفارق بينه وبين الخبز العادى، لا فى اللون ولا فى الرائحة أو الطعم، والفرق فى نتائج التحليل التي تقول إن هذا الدقيق يحوى 57% من وزنه من البروتين، بينما نسبة البروتين فى دقيق القمح لا تزيد على 10% وفى اللحوم 17% وفى البقول 20%، إلا أن دقيق القطن أكثر فائدة من اللحوم ما يزيد على ثلاثة أمثال، وذلك بالنسبة لكمية البروتين وحدها. وإذا علمنا أننا من أكثر شعوب الأرض نقصًا فى كمية البروتين الموجودة فى غذائنا، وأن نصيب الفرد عندنا من هذا البروتين هو 11 جرامًا فى اليوم، بينما يبلغ 32 جرامًا بالدول الأخرى. وإذا علمنا أنه يلزمنا 250 مليون جنيه كل سنة إذا أردنا أن نوفر لكل مواطن فى جمهوريتنا الحد الأدنى من البروتين الذى يلزمه تبعًا للمقاييس الصحية الدولية المعترف بها.. وإذا علمنا أنه من المستحيل دفع هذا المبلغ كل سنة لاستيراد لحوم ومواد بروتينية للاستهلاك الغذائي، لاتضحت أهمية هذا الاكتشاف المثير الذى يوفر علينا الملايين، ويزود شعبنا بحاجته من المواد البروتينية اللازمة بأقل التكاليف، ومن بذرة القطن التى ننتج منها كل سنة 850 ألف طن، لا نستهلك منها إلا نسبة بسيطة.. ونقص البروتين فى غذائنا الآن مسئول عن عشرات الأمراض والأعراض المرضية. ◄ اقرأ أيضًا | منها البروتين والخضار.. 5 مجموعات غذائية لحياة صحية بلا تعقيد ◄ اعتراف عالمي وقال لى الدكتور إسماعيل عبده: إن القيمة الغذائية لبذرة القطن والدقيق المستخرج منها ظهرت فى عام 1954، وعرضت نتائج أبحاث العلماء العرب فى مؤتمر التغذية الدولى الخامس بنيويورك، والمؤتمر الإقليمى للتغذية والزراعة فى إيران، واجتماعات منظمتى الصحة العالمية والأغذية والزراعة وصندوق إغاثة الطفولة، وبلغ من اهتمام الهيئات العلمية الأمريكية بهذا البحث، أن قامت بتصميم مصنع خاص لإنتاج الدقيق من بذرة القطن، ونجح إنتاج الدقيق من بذرة القطن، ونجح المصنع، وبدأ فى الإنتاج، ويصل إلينا الآن الدقيق المستخرج من بذرة القطن، ويستخدم فى تجربة قرية الكنيسة. والمصنع الأمريكى لإنتاج دقيق القطن رخيص الثمن، سهل الإدارة وعملى إلى أقصى حد، ويمكن أن يعمل فيه عدد قليل من الأفراد العاديين بعد تدريب قصير. ◄ مليون طن قمح وإذا كنا نستورد كل سنة أكثر من مليون طن من القمح والدقيق، وعندنا آلاف الأطنان من بذرة القطن التى لا نستعملها كلها فى استخراج الزيت والكُسب فما أحوجنا إلى متابعة هذا البحث، والاهتمام بالتوسع فى تطبيقه، وإخراجه إلى حيز التنفيذ العملى على أوسع نطاق، ولكل الناس. وقد شهدت «آخرساعة» التجربة الجديدة فى قرية الكُنيسة، والسبب الأول فى اختيار هذه القرية لتكون مركزا لهذا البحث، أن فيها مخبزاً كبيرًا واحدًا تستخدمه كل القرية فى إنتاج خبزها، وبذلك تسهل مراقبة إنتاج الخبز والإشراف عليه. ◄ التلاميذ والفلاحون وبدأت التجربة منذ 6 أشهر فى مدرسة القرية، وعدد تلاميذها 260 تلميذًا، وأضيف إلى غذائهم 20% من دقيق القطن إلى دقيق خبزهم العادى وتم الفحص الطبى الدقيق لكل التلاميذ لتسجيل حالتهم الصحية، والأمراض المصابين بها، ودرجة نموهم، وأوزانهم، وأطوالهم، ودونت هذه القياسات فى كشوف وسجلات، واستمرت التجربة، وبين كل فترة وأخرى يتم تسجيل القياسات الطبية من جديد، والفحص الطبى ودرجة النمو والحالة الصحية عمومًا، وأقبل التلاميذ على الخبز الجديد، ودل الفحص الطبى على تحسن كبير فى صحتهم، وزيادة فى أوزانهم، وبدأت تختفى أعراض مرض البلاجرا وفقر الدم، اللذين كانا ملازمين لأكثر تلاميذ المدرسة، وتقرر تعميم التجربة فى القرية كلها، وعدد الأسر فيها 100 أسرة، دخلت 50 منها فى التجربة وعدد أفرادها 150 فردًا، وتركت 50 أسرة تأكل خبزها العادى لمعرفة الفرق بين القسمين فى نهاية التجربة. وبعد ثلاثة أشهر من تغذية نصف القرية بخبز الذرة المضاف إليه 10% من دقيق القطن، ظهرت النتائج المدهشة، وعاد البريق إلى الجلود الخشنة التى كانت تشكو من نقص البروتين، وخشونة الجلد كانت من أعراض مرض البلاجرا المنتشر فى ريفنا بسبب سوء التغذية ونقص البروتين. واستعادت الأجساد التى أنهكتها البلهارسيا وسوء التغذية نشاطها ولوحظ ازدياد فى الأوزان وفى نمو الأطفال وارتفاع معدل الصحة العام. ◄ هزيمة الجوع وطارت إلى جميع أنحاء العالم نتائج التجربة المثيرة التى بدأت فى قرية الكنيسة، واهتمت الهيئات العالمية بها، وسيدخل دقيق القطن التاريخ ليحل إحدى مشكلات الدنيا المزمنة، وهى مشكلة الجوع ونقص مواد التغذية الرئيسية، وعلى رأسها البروتين اللازم لبناء الأجسام وللقيام بالجهود البشرية فى كل مجالات الحياة. شكرا للقطن، ولبذرة القطن، وللذين فكروا فى التجربة وقاموا بها، ونجحوا فيها ونقلوا نجاحهم إلى الدنيا كلها ليعم الخير الجميع، وهكذا تقود القاهرة معركة الانتصار على الجوع فى إفريقيا وآسيا كما قادت معارك أخرى ضد الأمراض والاستعمار والجهل وغيرها.. وما أكثر ما يخرج من القاهرة من خير لكل الدنيا، ولكل الناس. («آخرساعة» 9 أغسطس 1961)