وما نكاد نذكر الحياء حتى تخرج من القلب آهات ومن الصدر زفرات ومن اللسان غمغمات على خلق هجره الكثيرون وهان على الدنيا، فأصابه الغم فيهم فاعتزلهم ومات. ومما يروى فى نوادر العشاق حين يأخذهم الحياء فيكتمون هواهم ويشترون جواهم ويؤثرون رداهم، ما يحكى عن الأصمعى إذ كان يسير ذات مرة فى البادية فمر بقرب حجر مكتوب عليه: أيا معشر العشاق بالله خبروا إذا حلَ عشقٌ بالفتى ماذا يصنع ُ فكتب الاصمعى بيتاً تحت هذا البيت: يدارى هواهُ ثم يكتمُ سرهُ ويخشع فى كل الأمور ويخضعُ فى اليوم الثانى وجد الأصمعى بيتا تحت البيت الذى كتبه يقول: فكيف يدارى والهوى قاتل الفتى وفى كل يوم قلبه يتقطع فكتب تحته الأصمعي: إذا لم يجد صبرا لكتمان سره فليس َ لهُ شيء سوى الموت أنفع فى اليوم الثالث وجد الأصمعى شاباً ميتا قرب الحجر وكتب هذه الأبيات قبل موته: ِ سمعنا وأطعنا ثم متنا فبلغوا سلامى إلى من كان بالوصل يمنع فتنهد الأصمعى وقال: والله أنا الذى قتلته ... لقد اتهم الأصمعى نفسه بقتل العاشق الكتوم، وما أراه إلا شهيد حيائه وقد آثر كتمان هواه حتى لو كانت مساجلته مع الأصمعى تقول باستجابته للنصيحة، فلو لم يكن حياؤه ممتلكا عليه ملكات نفسه ومتغلبا على نزعات هواه وآلام جواه. أذكر تلك النادرة بتفاصيلها وأتحسر على ضياع قيمة الحياء فى كثير مما يجرى حولنا وتنقله بشغف واستمتاع الشاشات ومواقع التواصل الاجتماعى وتطبيقاتها المؤذية جريا وراء المشاهدات والتريند والعائد المغرى رغم أنه سحت صراح. ويا أيها الحياء لا تأخذنا بما يفعله من لا يعرفونك ومن لا يرين فيك نجاة لهن من ذئاب الدنيا وسعير الآخرة.