«الآباء هناك يعيشون مأساة تدمى القلوب، يضطرون لاختيار أىٍ من أبنائهم سوف يأكل القليل جدًا من الطعام المتوفر لديهم!» هل فقد «نتنياهو» إنسانيته بالكامل؟ يقولون فى التفاسير الفلسفية والنفسية إنه ليس هناك إنسان شرير مئة بالمئة، كما أنه ليس هناك إنسان خير مئة بالمئة، لكنها مسألة نسب تتراوح بين هاتين النزعتين اللتين تحركان النفس البشرية، وتكتبان سطور حكاية كل إنسان. لكنها ربما تكون حالة استثنائية جدًا، تلك التى نراها فى هذا المستوحش، المستأسد، فاقد الشعور. هذا «الشيء» الذى لا تتخلل دماءه ذرة من الإنسانية، يرى البشر أمامه يموتون جوعًا، فيباعد بينهم وبين أى مصدر للنجاة! يسعده منظر الأطفال فى هزال، وضعف شديدين، ليس لديهم قوة تمكنهم حتى أن يبكوا أو يصرخوا، يشاهدهم وقد باتوا أقرب إلى جثث هامدة، تنظر بعيون ثقيلة إلى السماء متوسلة معجزة تنزل عليهم، وترفعهم من فوهة الموت، فلا يحرك كل هذا له ساكنًا!. لقد أعلنت الأممالمتحدة قبل أيام أن غزة وصلت لمرحلة المجاعة رسميًا، وهى طبقًا لتعريف مراكز البحوث الغذائية والطبية العالمية المرحلة الخامسة من التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائى. «المجاعة» تعنى الافتقار التام إلى إمكانية الحصول على الغذاء والاحتياجات الأساسية الأخرى للحياة. فى هذه المرحلة تواجه الأسر نقصًا حادًا فى الغذاء والاحتياجات الأساسية، حتى بعد تبنى جميع تدابير التكيف الممكنة. الآباء هناك يعيشون مأساة تدمى القلوب، يضطرون لاختيار أيٍ من أبنائهم سوف يأكل القليل جدًا من الطعام المتوفر لديهم! أى مأساة إنسانية أقسى من ذلك؟ أن يصبح سلاح التجويع هو أحد أسلحة الحرب، هل يمكن تخيل ذلك؟. هناك أربع مراحل من سوء التغذية، ونقص الغذاء سبقت تلك المرحلة الخامسة «المجاعة». وثلث سكان قطاع غزة سيصلون إلى تلك المرحلة فى غضون شهر. الحكومة الإسرائيلية فرضت قيودًا، بشكل غير قانونى على دخول وتوزيع المساعدات الإنسانية والبضائع الضرورية لبقاء السكان المدنيين فى قطاع غزة على قيد الحياة. العالم كله يصرخ فى وجه هذه الوحشية غير المسبوقة «التجويع كجريمة حرب» لكن لا أحد يملك وقف هذا المتوحش الفاجر عن إتمام جريمته فى حق البشر العزل! أين ترامب مما يحدث؟ ولماذا لا يمارس سيطرته على العالم التى يدعيها، ويفتخر بها أمام قادة العالم لوقف هذه الكارثة الإنسانية المدوية؟!. بيانو فاطمة انتهيت لتوى من قراءة (نوفيلا) بديعة لواحد من كتابى المفضلين، المقربين بإبداعاتهم الفريدة، التى لا تشبه أحدًا من قلبى وروحى. الكاتب هو: الدكتور محمد المخزنجى، و(النوفيلا) عنوانها «بيانو فاطمة» الصادرة عن دار الشروق للطباعة والنشر. معزوفة أدبية، رائقة، مغزولة بخيوط من جمال، وعذوبة، معجونة بإنسانية غامرة. ما هذا الجمال فعلًا؟! وكيف تصل يا دكتور مخزنجى إلى هذا المستوى شديد العمق من التماهى مع الفكرة، والتوحد مع الشخصيات؟ كيف يصبح عالمهم هو عالمك الذى تعيش مفرداته وتفاصيله بكل ذرة فى كيانك؟. تقول فى بداية كتابك الصغير فى حجمه، الكبير جدًا فى قيمته ومحتواه: «إن الأدب هو نوع من التخييل الذاتى مهما كان واقعيًا». لكنك استطعت بقدرة فذة أن تجعلنى أعيش هذا التخييل أو الخيال واقعًا قادرًا على النفاذ إلى مواطن إحساسى، يحرك داخلى أشياء لا أستطيع تحديدها، مشاعر كامنة تتوحد مع الحلم الذى تشى به سطورك، لتفجر داخلنا الرغبة فى اكتشاف أنفسنا أولًا، ثم العثور على المشاعر المدفونة تحت طبقات متراكمة تكونت عبر الزمن. أحببت تلك «النوفيلا» القصيرة (37 صفحة) لدرجة أننى لم أستطع أن أبدأ بعدها فى قراءة الجزء الثانى من الكتاب. كان لابد أن تكون هناك مساحة تأمل كافية لاستيعاب تلك الشحنة المكثفة، المركزة من المشاعر والنوستالجيا والذكريات. كنت أحتاج للبقاء فى عمق تلك الحالة التى وضعنى فيها «بيانو فاطمة»، لا أرغب فى الخروج سريعًا من عالمها لأنتقل إلى نص آخر حتى لو كان نصك!. حيوان رمزى للبلاد بعد أيام بدأت الجزء الثانى من كتاب محمد المخزنجى، وهو ينتمى إلى نوع أدبى جديد، أو ربما قديم لكننى لم أسمع عنه من قبل ويطلق عليه «تكريسة»، وهو يعرفها فى البداية بأنها فى اللغة «كرس» الشيء، أى ضم بعضه إلى بعض، ويقال كرس حياته للعلم: وقفها عليه. و(الكراسة): إضمامة من الورق تهيأ للكتابة فيها. كذلك كتب أنها مغامرة يكرس فيها فن القص على تقنية المقال على سعى البحث، كل هذا يغطيه بنار العاطفة التى هى طاقة كل أدب. الموضوع الذى اختاره الكاتب لهذه التكريسة هو «البحث عن حيوان قومى للبلاد». فهناك أمة حيوانها القومى هو النسر، وثانية الصقر، وثالثة الدب، ورابعة الكانجرو، وخامسة الظبى، وسادسة البطريق. واضح من الفكرة إنها فانتازيا، لكنها فى الحقيقة أعمق من ذلك. ذهب الكاتب فى هذه المغامرة مع صديقه المقرب ليمضى فى رحلة البحث عن هذا الحيوان الذى يرمز لبلادنا بجذورنا التاريخية، تركيبتنا النفسية، والاجتماعية. كل ذلك بأسلوب ساخر، يشرح أحوالنا ومشاكل تفكيرنا. فقرة جميلة جدًا أعجبتنى فى تلك ال «تكريسة» أردت أن أشاركها معك قارئى العزيز: «قالت له إنها صارت امرأة برية تلتقى برجلها البرى فى قلب غابة بكر، لا وحوش فيها ولا زواحف ولا دبابير ولا بعوض، وتمارس فيها كل الكائنات الحب من حولها، الحيوانات على الأرض، الطيور على الأغصان، والأسماك فى غدران المياه الشفافة، وقوارض الخلد فى أنفاقها.. تحت الأرض!». شكرًا الدكتور محمد المخزنجى على هذا الأدب الجميل، العابر للزمان والمكان، المتجاوز لكل الأنواع الأدبية المعروفة. تقديرية الدولة هناك أخبار تسعد القلب فعلًا. منها أن يأتيك خبر مفرح بفوز شخص تحترمه، وتقدر إنجازه الملموس، الذى يتجاوز شخصه ليؤثر على الآخرين. من تلك الأخبار المبهجة كان فوز اثنين من الشخصيات الرائعة بجائزة الدولة التقديرية فى الأدب: هما فاطمة المعدول، وأحمد الشهاوى. لكل منهما مشوار أدبى وفنى مشرف يرقى لمستوى الجائزة. فاطمة المعدول التى وهبت حياتها للطفل بكل محبة وإخلاص. كتبت له، أقامت الورش الفنية والأدبية لتطوير مهاراته، قدمت مسرحيات تخاطب قلبه وعقله، وتشكل وعيه. اشتغلت مع الأطفال من ذوى الاحتياجات الخاصة وأخرجت لهم ومعهم وبهم مسرحيات رائعة. سافرت وتعلمت وشاهدت كيف تتعامل الدول المتقدمة مع الطفل باعتباره ثروة قومية يجب الحفاظ عليها وتقديم كل الإمكانات لبناء شخصيات متكاملة، والاهتمام بدعم مواهبهم واكتشاف ملكاتهم ليصبحوا مؤهلين لقيادة المستقبل. ترجمت فاطمة المعدول كل هذا إلى برامج، وكتب، وشغل مباشر مع الأطفال المصريين. ونجحت على مدى خمسين عامًا من العمل المتواصل أن تترك بصمة قوية محفورة فى ذاكرة الوطن. أحمد الشهاوى الذى أراه دائمًا عاشقًا للحرف، راهبًا فى محراب الكلمة. والمدهش أنه تفوق فى كل ما يمت لعالم الكتابة بصلة. فى الصحافة كان ولا يزال من أهم الأعمدة التى قامت عليها مجلة «نصف الدنيا» الصادرة عن جريدة الأهرام. أما الشعر فقد سكن دمه وشرايينه منذ الصغر، وله عدد كبير من الدواوين تبحر أبياتها فى أعماق النفس، وتحاول القبض على الجوهر والأصل. غاص الشهاوى فى بحور الصوفية، تشرب روحها، قرأ أمهات كتب التراث، وجاب الدنيا بحثًا عن الشعر والأدب فكان جديرًا ومستحقًا بقوة لأهم وأكبر تكريم: جائزة الدولة التقديرية. عاطف كامل صفعنى الخبر، نزل ثقيلًا على عقلى وقلبى، مات الإعلامى القدير عاطف كامل. الموت علينا حق، ولا اعتراض على قدر، لكن الظروف والملابسات التى بدأت تتكشف لى بالسؤال عن سبب الوفاة، قادتنى إلى مأساة مكتملة الأركان. خلافات عائلية، مكائد نسائية، قضايا ومحاكم لم يحتملها الإنسان الخلوق، صاحب المسيرة المضيئة، والذى وصفه الطبيب الكاتب حامد عبد الله ب «النبيل». هكذا عرفناه منذ بداياته فى برنامج «لو بطلنا نحلم» وحتى آخر يوم فى حياته، إنسان محترم، مهنى رفيع المستوى. رحم الله الصديق الغالى عاطف كامل. دكتور على مصيلحى ترك الدكتور على مصيلحى أثرًا حقيقيًا نافعًا للناس فى كل منصب تقلده، كما ترك ذكرى غالية مفيدة ومؤثرة فى وجدان كل من عرفه أو صادفه فى رحلة الحياة. تشرفت بلقائه أكثر من مرة وأجريت حوارًا طويلًا معه عندما تولى وزارة التضامن الاجتماعى. كان مليئًا بالأمل، محبًا لمصر حتى النخاع، يؤمن بأن العمل وحده هو القادر على تغيير حياة البشر، لا الشكوى والسلبية. رأيته دائمًا شعلة نشاط، طاقة هائلة لم تنفذ إلا عندما هزمه المرض اللعين، لديه إيمان عميق بأن الله لا يضيع أجر من أحسن عمله. رحم الله فقيدنا الغالى وأسكنه فسيح جناته، وأثابه فى مثواه الأخير بقدر ما أعطى واجتهد، ومنح للحياة والبشر حبًا. كلمات: هناك دائما أكثر من زاوية لرؤية الأمور.. حاول أن تنظر إلى الزاوية التى يغمرها الضوء.. سترى أفضل!.