حملة لتوفير أجهزة كمبيوتر.. دعوات لتأهيل المدارس لتعليم التكنولوجيا | تفاصيل    تراجعت على العربات وبالمحال الصغيرة.. مساعٍ حكومية لخفض أسعار سندوتشات الفول والطعمية    وفقا لوزارة التخطيط.. «صيدلة كفر الشيخ» تحصد المركز الأول في التميز الإداري    الجيش الأوكراني: 96 اشتباكا قتاليا ضد القوات الروسية في يوم واحد    طائرات جيش الاحتلال تشن غارات جوية على بلدة الخيام في لبنان    3 ملايين دولار سددها الزمالك غرامات بقضايا.. عضو مجلس الإدارة يوضح|فيديو    كرة سلة - ال11 على التوالي.. الجندي يخطف ل الأهلي التأهل لنهائي الكأس أمام الجزيرة    المقاولون العرب يضمن بقاءه في الدوري الممتاز لكرة القدم النسائية بعد فوزه على سموحة بثلاثية    تصريح مثير للجدل من نجم آرسنال عن ليفربول    السجن 15 سنة لسائق ضبط بحوزته 120 طربة حشيش في الإسكندرية    إصابة أب ونجله سقطا داخل بالوعة صرف صحي بالعياط    خناقة شوارع بين طلاب وبلطجية داخل مدرسة بالهرم في الجيزة |شاهد    برومو حلقة ياسمين عبدالعزيز مع "صاحبة السعادة" تريند رقم واحد على يوتيوب    رئيس وزراء بيلاروسيا يزور متحف الحضارة وأهرامات الجيزة    بفستان سواريه.. زوجة ماجد المصري تستعرض جمالها بإطلالة أنيقة عبر إنستجرام|شاهد    ما حكم الكسب من بيع التدخين؟.. أزهري يجيب    الصحة: فائدة اللقاح ضد كورونا أعلى بكثير من مخاطره |فيديو    نصائح للاستمتاع بتناول الفسيخ والملوحة في شم النسيم    بديل اليمون في الصيف.. طريقة عمل عصير برتقال بالنعناع    سبب غياب طارق مصطفى عن مران البنك الأهلي قبل مواجهة الزمالك    شيحة: مصر قادرة على دفع الأطراف في غزة واسرائيل للوصول إلى هدنة    صحة الشيوخ توصي بتلبية احتياجات المستشفيات الجامعية من المستهلكات والمستلزمات الطبية    رئيس جهاز الشروق يقود حملة مكبرة ويحرر 12 محضر إشغالات    أمين عام الجامعة العربية ينوه بالتكامل الاقتصادي والتاريخي بين المنطقة العربية ودول آسيا الوسطى وأذربيجان    سفيرة مصر بكمبوديا تقدم أوراق اعتمادها للملك نوردوم سيهانوم    مسقط تستضيف الدورة 15 من مهرجان المسرح العربي    فيلم المتنافسون يزيح حرب أهلية من صدارة إيرادات السينما العالمية    إسرائيل تهدد ب«احتلال مناطق واسعة» في جنوب لبنان    «تحيا مصر» يوضح تفاصيل إطلاق القافلة الخامسة لدعم الأشقاء الفلسطينيين في غزة    وزير الرياضة يتابع مستجدات سير الأعمال الجارية لإنشاء استاد بورسعيد الجديد    الاتحاد الأوروبي يحيي الذكرى ال20 للتوسع شرقا مع استمرار حرب أوكرانيا    مقتل 6 أشخاص في هجوم على مسجد غربي أفغانستان    بالفيديو.. خالد الجندي: القرآن الكريم لا تنتهي عجائبه ولا أنواره الساطعات على القلب    دعاء ياسين: أحمد السقا ممثل محترف وطموحاتي في التمثيل لا حدود لها    "بتكلفة بسيطة".. أماكن رائعة للاحتفال بشم النسيم 2024 مع العائلة    القوات المسلحة تحتفل بتخريج الدفعة 165 من كلية الضباط الاحتياط    جامعة طنطا تُناقش أعداد الطلاب المقبولين بالكليات النظرية    الآن داخل المملكة العربية السعودية.. سيارة شانجان (الأسعار والأنواع والمميزات)    وفد سياحي ألماني يزور منطقة آثار بني حسن بالمنيا    هيئة الرقابة النووية والإشعاعية تجتاز المراجعة السنوية الخارجية لشهادة الايزو 9001    مصرع طفل وإصابة آخر سقطا من أعلى شجرة التوت بالسنطة    رئيس غرفة مقدمي الرعاية الصحية: القطاع الخاص لعب دورا فعالا في أزمة كورونا    وزير الأوقاف : 17 سيدة على رأس العمل ما بين وكيل وزارة ومدير عام بالوزارة منهن 4 حاصلات على الدكتوراة    «التنمية المحلية»: فتح باب التصالح في مخالفات البناء الثلاثاء المقبل    19 منظمة حقوقية تطالب بالإفراج عن الحقوقية هدى عبد المنعم    رموه من سطح بناية..الجيش الإسرائيلي يقتل شابا فلسطينيا في الخليل    تقرير حقوقي يرصد الانتهاكات بحق العمال منذ بداية 2023 وحتى فبراير 2024    مجهولون يلقون حقيبة فئران داخل اعتصام دعم غزة بجامعة كاليفورنيا (فيديو)    حملات مكثفة بأحياء الإسكندرية لضبط السلع الفاسدة وإزالة الإشغالات    «الداخلية»: تحرير 495 مخالفة لعدم ارتداء الخوذة وسحب 1433 رخصة خلال 24 ساعة    "بحبها مش عايزة ترجعلي".. رجل يطعن زوجته أمام طفلتهما    استشاري طب وقائي: الصحة العالمية تشيد بإنجازات مصر في اللقاحات    إلغاء رحلات البالون الطائر بالأقصر لسوء الأحوال الجوية    عبدالجليل: سامسون لا يصلح للزمالك.. ووسام أبوعلي أثبت جدارته مع الأهلي    دعاء آخر أسبوع من شوال.. 9 أدعية تجعل لك من كل هم فرجا    مفتي الجمهورية مُهنِّئًا العمال بعيدهم: بجهودكم وسواعدكم نَبنِي بلادنا ونحقق التنمية والتقدم    نجم الزمالك السابق: جوميز مدرب سيء.. وتبديلاته خاطئة    برج القوس.. حظك اليوم الثلاثاء 30 أبريل: يوم رائع    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



محمد المخزنجى: الرواية الموجزة قادمة بقوة والهوس بالضخامة سينتهى
نشر في الأهرام اليومي يوم 11 - 06 - 2018

* الأشكال الأدبية بنظره يجب أن تتحرر من هيمنة التسويق والثبات النقدى
* أعتقد أننى فى جوهرى شخص خجول بالمعنى النفسى ومحب للهدوء ونافر من الضوضاء والصخب وجموحى المبكر كان نوعا من الدفاع النفسى ضد انتهاك كرامة هذا الخجل
* رفضت وزارة الثقافة للحفاظ على إيقاع حياتى وحتى لا أُحرم من بهجة الغداء مع أسرتى الذى تواصل لربع قرن مرصعا بالضحك وحكاياتى المكررة لابنيَّ اللطيفين وأمهما
محمد المخزنجى فى أثناء حواره مع مندوب الأهرام
من بدايته. كان نجماً ساطعا فى أفق جامعة المنصورة!
دارسا للطب، وناشطا سياسيا، ولاعب جمباز، وكاتبا، يزهو بمدينته الجميلة، ونيلها الساجي.
عاش متعة التفتح على المعرفة، والعلم، وزهوة النشاط الرياضي، وشهرة القيادى التى تجاوزت أروقة كلية الطب تدريجيا، إلى بقية كليات الجامعة، ولمع اسمه تدريجياً.
وقبل هذا كان يتردد على ورشة والده، فتفتح وعيه مبكرا على تجاور عالم الصنايعية والفقراء، ودنيا أصحاب السيارات الموسرين، فاشتعلت فى رأسه الأسئلة!!
وكان اليسار فى أواخر قوته، وتألقه، وهيمنته على الجامعة والثقافة، فاعتقل عدة مرات على ذمة تنظيمات لم ينتم إليها، ولم يجدوا خلفه أى أثر ضده، لكنه فقط كان لامعا فى أنظارهم لدرجة لا يمكن تجاهلها.
فأججت تلك التجارب موهبته الإبداعية، وإشعال قدراته على التقاط الفروق الطبقية، والبحث عن إجابات لأسباب اختلال الأوضاع، وحرّضته المنصورة البهيّة على إنتاج الجمال، كما يقول، فكانت القصة القصيرة، تلك الومضة الباهرة، التى تنوب عن الرواية والمقالة والنضال فى قول الرأى بشكل فنيّ مدهش، ومضيء. أو كما وصفها «نجيب محفوظ» فى حديثه عن المخزنجى بقوله: «قصص قصيرة جدا، لكن كل قصة لها معنى مترام واسع». ووصفها دكتور «يحيى الرخاوي» بأنها «رواية فى صفحة».!
ومع مجموعته «رشق السكين» عُرف كواحد من أهم كتاب القصة، وذاع صيته، وأصبح يشار إلى كتاباته بالبنان، قبل أن يغادر مدينته الوادعة. لكن ذلك لم يشف غُلّته، إلى أن وجد ضالته فى مجلة العربى الكويتية، التى أسسها العالم المثقف الجليل «د. أحمد زكي»، فوجد نفسه أمام ما يسميه «الثقافة الثالثة» التى تمزج العلم الرصين بالأدب العذب، فاختط لنفسه طريقا فريدا، لم يسبقه إليه أحد من الكُتّاب العرب، وتنكّب فيها الرؤية الرصينة للكاتب الأمريكى المشتغل بالعلم «سى بى سنو» عن ثقافتى العلوم الإنسانية، والعلوم الطبيعية، فتوصل مع العالم «ألدوس هيكسلي» إلى «عالم جديد شجاع» حسب وصفه المبكر النبوئى للعالم. ثم اتضحت الرؤية مع «جون بروكمان» المُنظِّر للعلم، الذى بشَّر ب «الثقافة الثالثة»، التى تمزج العلم بجماليات أدبية وتناغمات من العلوم الإنسانية، وكتابات علماء كبار رفيعة المستوى فى كتاب «الإنسانيون الجدد». أنتجت كتبا عن أبحاث علمية تلامس الخيال، تنافس أكثر الروايات تشويقا، منها «تاريخ موجز للزمان»، و«الجينة الأنانية»، و«الانقراض»، و«النهاية الكونية» و«المتخفي».
فى هذه المنطقة الآن. يكمن الأديب الكبير دكتور «محمد المخزنجي» ليقدم لنا «بثقافة العلم اقتراحا تجديديا فى السرد الأدبي».. متمنياً أن يمضى بقية حياته فى دِعةٍ بين القراءة والكتابة!.

من يراك لا يصدق أنك وصلت فى أبريل الماضى إلى التاسعة والستين، فكيف ترى هذا، وأية أفكار يحملها لك هذا العمر، إذا كان ذلك حقيقيا؟
هذا العمر حقيقي، لكن على المستوى النفسى يدهشنى كثيرا أننى لا أشعر بالشيخوخة، ولا أعرف إلى مدى من الزمن سيستمر هذا، فثمة بدايات لمتغيرات خارج النفس التى لاتزال خضراء، وهذا يوقفنى موقف من يتسنم قمة ضيقة وحادة، ينظر فيها إلى الخلف بافتقاد، ويرنو فيها إلى الأمام برهبة، فيدرك بأسى مهما كانت شجاعته الروحية أن ما هو آت أقل مما فات، ولعله يُعزِّى نفسه بأنه فى الكثير الذى فات أنجز شيئا معقولا، ويُمنِّى نفسه بأن ينجز فى القليل المتبقى ما يسلس الرحيل.
أود لو أعرف رأيك فيما أنجزته من مشروعك الأدبي، على اعتبار أن «كل كاتب داخله ناقد بالضرورة» على حد قولك فى حديث سابق؟
مع البدايات كرست ثلاثة كتب قصصية متعاقبة لما يُسمى القصة القصيرة جدا، وأحدَثَت دويا وأثرا، وصارت عنوانا يشير إليَّ، حينها كنت أظن أن هذا هو مشروعي، وكان طموحى أن أكتب مائة قصة شديدة الإيجاز، لكن تتوافر بها كل شروط القصة، أو كما وصفها نجيب محفوظ فى حديث له بمجلة عام 1984 «قصص قصيرة جدا، لكن كل قصة لها معنى مترام واسع». ووصفها الدكتور يحيى الرخاوى بأنها «رواية فى صفحة».
نشرت من ذلك النوع أكثر من مائة قصة، وهناك مائة أخرى لم تُنشر فى كُتب، أى أكثر من مائتى «قصة موجزة»، وبهذا أكون أوفيت هذا المشروع حقه. بعدها تنوع ما أكتبه فى الأدب، ولعلنى صرت «جملة اعتراضية» متنقلة فى ساحة الكتابة بأنواعها، أدب الرحلة «جنوبا وشرقا»، والمقال القصصى «مساحة للدهشة»، و«رواية الحقيقة القصصية»، أو «رواية الصحافة الجديدة» «فصول تشيرنوبل الأربعة»، ثم كتابات «الثقافة الثالثة» متمثلة فيما مكثت أنشره فى السنوات الأخيرة من نصوص تمزج المعرفة العلمية بالسرد الأدبى والفن الصحفى ببعديه التحريرى والبصري، وهذه أعدها الآن للنشر فى كتاب كبير عنوانه المبدئى «جديد عجائب المخلوقات». أما إسهامى الذى أعتز به أدبيا والذى انتبه إليه الناقد والأكاديمى الشاب الدكتور «محمد سليم شوشة»، فهو «دمج المعرفة العلمية فى بنية النص الأدبي»، وهو كتب هذا ونشره دون أن أهديه الكتاب، وهو ماحدث أيضا مع «نجيب محفوظ» الذى تحدث عن كتابى الأول بما ذكرت دون أن أهديه إياه. وعموما أخجل من تقديم كتبى للنقاد، لأن هذا يشعرنى بأننى أسألهم أن يكتبوا عنها، وهذا شعور مهين، يعادل عندى نوعا من «التسول» أستفظعه، خاصة ونحن نسبح فى مستنقع كبير من مظاهر التسول وراء أقنعة مختلفة، بعضها ملون وراقص!.
وماذا تقصد ب «الثقافة الثالثة» وهو مصطلح جديد؟.
فى منتصف القرن العشرين، نشر الكاتب الأمريكى والمشتغل بالعلم «سى بى سنو» مقالا عن وجود ثقافتين منفصلتين تماما، ثقافة العلوم الإنسانية، وثقافة العلوم الطبيعية، وكان أصحاب الأولى ينظرون إلى الثانية باستعلاء واستهانة. وفى أواخر القرن العشرين حدثت ثورة علمية وتقنية هائلة غيرت شكل الحياة، وفجرت معرفة مايمكن وصفه بأنه «عالم جديد شجاع» حسب التوصيف المبكر والنبوئى للعالم والكاتب «ألدوس هيكسلي». وعلى مشارف قرننا الحادى والعشرين تقدم « جون بروكمان» المُنظِّر للعلم والوكيل الأدبى لعديد من العلماء الحاصلين على جوائز نوبل، وانتقد بقلم نارى تهافت تعظيم ثقافة الإنسانيات دون غيرها، ثم بشَّر ب «ثقافة ثالثة»، تمزج العلم بجماليات أدبية وتناغمات من العلوم الإنسانية، وقطع شوطا أبعد فأصدر مختارات موجزة من ذلك، كتبها علماء كبار بتحرير فنى رفيع المستوى فى كتاب «الإنسانيون الجدد». ومواكبة لذلك، ظهرت كتب علمية موجهة للقارئ العام تتناول ما وصلت إليه أحدث الأبحاث العلمية التى تلامس الخيال، مكتوبة بطريقة جذابة جدا تنافس جاذبية أكثر الروايات تشويقا، وتبوأ الكثير منها قمة ال «البيست سيلر»، عن جدارة معرفية لا شطارة تسويقية، مثل « تاريخ موجز للزمان»، و«الجينة الأنانية»، و«الانقراض»، و«النهاية الكونية» و«المتخفي». وغيرها كثير، ومثير، وغزير.
وكيف تفاعلت أنت كأديب مع ثقافة «الإنسانيون الجدد»، وما ملامح هذا التفاعل فى كتاباتك؟
أعتقد أننى كنت سعيد الحظ عندما عملت محررا علميا لمجلة العربى فى 1992 بعد 12 سنة من العمل فى اختصاص طب النفس والأعصاب فى بلد متقدم درست فيه اختصاصا طبيا إضافيا استلزم دراستى لمنهج مكثف فى الفيزياء، وبطبعى إما أن أحب ما أعمله أو لا أعمله، وراقت لى مهمة المحرر العلمي، وأتاحت لى إمكانيات غير مسبوقة للحصول على أحدث ما يصدر فى العالم فى هذا المجال، وزحفت كتب الثقافة الثالثة على مكتبتي، كما زحفت هذه الثقافة على كتابتي، وهذا ما يواسينى الآن فى انقضاء كل هذه السنوات من العمر، ففتْح نافذة ولو بحجم ثقب إبرة لشعاع ثقافى جديد هو أمر جيد، موجود فى العالم نعم، لكنه نادر لدينا.
هذا نعرفه فى كتاباتك للصحافة، لكن هل تدل القارئ عليه فى إبداعاتك الأدبية، ولنحدد فى ذلك كتابيك الأدبين الأخيرين «صياد النسيم» و«بيانو فاطمة»؟
أعتقد أننى أدخلت المعرفة العلمية فى صناعة التيمة القصصية (أوالتفنينة القصصية) إضافة لنسج العلم فى قماشة السرد القصصي. وعلى سبيل المثال من كتابى «صياد النسيم» فى القصة التى تحمل الاسم نفسه، تجد استنطاقا لعمارة «حسن فتحي»، وطرحا لمفاهيم «ديناميكية دوران الهواء» داخل الأبنية، وفيزياء المدخنة، وكل ذلك فى سياق أدبى إنساني. وفى قصة «شجرة الباوباب» سرد لخصائص هذه الشجرة منسوجة مع دراما القصة. وفى قصة «ننتظر ونراقب» قراءة نفسية اجتماعية لسلوك الخلايا السرطانية العضوي. أما قصة «زومووو» فهى مشيدة على أساس تأثير موجات الصوت الفائق التى تشبه الخيال. أما فى الرواية الموجزة «بيانو فاطمة» فتيمتها التأسيسية عن بيانو يستشعر توابع اهتزازات الأرض بعد زلزال1992 ويتنبأ بها، وهى قائمة على منطق علمى جوهره ظاهرة تجاوب جسم ساكن مع جسم متذبذب له نفس درجة الذبذبة. وهذا كله مختلف عن أدب الخيال العلمي، فهو واقع علمى يشبه الخيال، وأعتقد أننى قدمت بثقافة العلم اقتراحا تجديديا فى السرد الأدبي.
إضافة إلى استخدامك تقنية «التخييل الذاتي» فى الكتابة و«التأسيس العلمى لمصنف أدبي»، قدمت نصا أسميته «تكريسة» فهل هذا مجرد لعب فى الشكل، خاصة أنك أول من استخدم تعبير «رواية الحقيقة القصصية» فى مقدمة كتابك عن «تشيرنوبل». فهل كان هذا ضروريا للموضوع، وهل يشير هذا إلى تغيرات مرتقبة فى الأدب؟
الأشكال الأدبية لابد أن تتحرر من هيمنة الترويج والتسويق والثبات النقدي، لأن هذايُضيِّق مواضيع الأدب ويصيبها بالنمطية، فالجزء الثانى من كتاب بيانو فاطمة «البحث عن حيوان رمزى جديد للبلاد» والمكتوب منذ تسع سنوات، لم أستطع تصنيفه، فهو ليس رواية ولا قصة، ولا مقالة ولا بحث، لكنه يحتوى ملامح من ذلك كله، فاستعرت له مصطلح «تكريسة» من الجذر اللغوى العربى «تكريس» الذى يعنى ضم الشيء بعضه إلى بعض.
وهناك عمل آخر سابق فى تمرده على الأشكال «المقررة» وهو «فصول تشيرنوبل الأربعة» الذى صدرت طبعته الأولى عام 1994، وفى طبعة دار الشروق عام 2006 ذكرت تنويها داخليا موجزا على استحياء عن «رواية الحقيقة القصصية» والتى لها تسمية أخرى هى «رواية الصحافة الجديدة»، وهو شكل مُقدَّر ومعترف به عالميا، يجمع فن التحقيق الصحفى وجماليات الكتابة الأدبية، وتكرر حصوله على جائزة «بوليتزر»، وفازت بمثله «سفيتلانا أليكسيفتش» بجائزة نوبل 2015 عن كتابها «أصوات تشيرنوبل»، واعتبرت فوزها انتصارا شخصيا لي، وثأرا ممن علقوا على تصنيفى لكتابى عن «تشيرنوبل» بأنه ليس رواية، وكأن الرواية لها شكل واحد مقدس ومُكرَّس. لهذا لم تعد تهمنى الكتابة داخل أى قالب غير ما أستشعر أنه لصيق بالموضوع. أما حرصى على الإشارة إلى «بيانو فاطمة» بأنها «نوفيلا» فمرجعه قناعتى بأن الرواية الموجزة، ذات التاريخ الأدبى الأصفى والأرهف، قادمة بقوة، والهوس بالضخامة فى الرواية سينتهي.
إن كنت محرضا ومتمردا فى الأدب، ففى الواقع تتمتع بالتؤدة والهدوء والتريث، فكيف تحتوى المتعارضين؟
ثمة تغيرات تلحق بالإنسان مع مرور الوقت وتراكم التجربة، وبعد سنوات من الجموح والاندفاع كان لابد أن أحول جموحى الخارجى إلى الداخل، لكن إذا جاز لى أن أُشخِّص نفسي، وهى تجربة ذات سوابق شهيرة لدى الأطباء النفسيين، أعتقد أننى فى جوهرى شخص خجول (بالمعنى النفسي) محب للهدوء ونافر من الضوضاء والصخب، وما جموحى المبكر إلا نوع من الدفاع النفسى ضد انتهاك كرامة هذا الخجل، بالظلم أو الإهانة أو الاستهانة أو الادعاء أو الغدر، وكان علم النفس يعبر عن أصحاب هذه الشخصية باصطلاح «الانطوائيين»، لكن ثمة اصطلاح جديد سديد يصفهم بأنهم «حساسون»، ولعل الأدق أنهم «خجولون»،لكن هؤلاء ليسوا نمطا واحدا، فالنفس الإنسانية مثل بصمة الأصابع غير متكررة، لهذا أتصور أن تشخيصى لذاتى هو أننى خجول سريع الاشتعال الهجومى إذا مسته شرارة من إهانة أو استهانة أو غبن أو أذى أو نذالة، ومن ناحية أخرى قد تكون حميدة، سريع الاشتعال عاطفيا. صحيح أننى مع مرور السنين صرت أستطيع «ضبط نفسي»، لكن لاتزال لى انفجارات وإن بدت نادرة، تكاد تكون حمقاء فى تهورها واندفاعها، لهذا أردد كثيرا أن الحماقة الإنسانية كثيرا ما تكون دليل أقصى البراءة!
كونى من المنصورة تابعت بداياتك الأدبية الجميلة بشغف، فى حقبة المنصورة، وعرفت أنك كنت بطلا فى رياضة الجمباز، ومناضلا سياسيا وتم اعتقالك أكثر من مرة، وكنت نجما ساطعا فى الجامعة، فكيف تداخلت كل هذه السياقات؟
لا أعرف كيف حدث هذا بالضبط، وأظن الآن أنه عندما تجتمع فى شابٍ ما هبة الخيال الجامح مع جسد سليم وفتى ويضاف هذا إلى سيكلوجية الخجول سريع الاشتعال، فلابد أن تدق أجراس الإنذار، بمولد جانح أو مُبدع. والحمد لله أننى نجوت من مصير الجنوح بفضل أبوين طيبين وأحباب وأصدقاء وزملاء وأساتذة ذوى بصيرة إنسانية غامرة تسامحوا مع جموح هذه التركيبة الخطرة، وهذا ما جعلنى دائم المحاكمة العقلية للذات وما يحيط بها. ومن ذلك أننى لم أنضم لأى تنظيم شيوعي، على الرغم من أننى تبنيت لبضع سنوات مبكرة مقولات هذه الفلسفة المادية، كان لدى شكوك فى منطقها، وانتهى حسن ظنى بها تماما بعد سنوات دراستى الثلاث فى الاتحاد السوفيتي، لقد رأيت هذه الشيوعية من الداخل، كانت يوتوبيا، فيما البشرية لم تصل لمرحلة من الارتقاء يؤهلها لتحويل هذه اليوتوبيا إلى واقع، بل مسختها فى شكل مجتمع بوليسى مثقل بالكذب، لهذا أعجبنى كثيرا قول أحد المنشقين عن الاتحاد السوفييتى عندما سألوه: لماذا خرجت من الاتحاد السوفييتي، فقال: «لكى أنجو بأطفالى من مصير الكذب»، فالكذب هو ما هدم هذه التجربة التى كان ممكنا بالمراجعة الصادقة أن تكون جزيرة إنسانية رائعة فى أرض البشر. لا أمريكا ولا سباق التسلح ولا التآمر هو الذى هدم الاتحاد السوفييتي، بل الكذب المُقنَّع بالأيديولوجيا والمزوَّق بالبروباجاندا. لكن ذلك المجتمع بجانب كل ما قلته سياسيا تميز بالكثير من الفضائل الإنسانية لدى الروس، والثقافة والآداب والفنون الراقية، واستمرار إحياء التراث الأدبى العظيم لتشيخوف وتولستوى ودوستويفسكى وغيرهم. أليست هذه سياقات مختلفة ومتداخلة أيضا؟!
ظاهرة تستحق التوقف عندها، وتطرح سؤال الإبداع تحت القمع، ميلان كونديرا وإسماعيل كادريه كمثالين، كيف يزدهر الكاتب تحت القمع، وهل تضعف أعماله حين يتمتع بالحريات؟.
هناك درجات من القمع، وقد يفلت البعض من درجاته المخففة، وسأقارن بين الكاتبين اللذين ذكرتهما، ولهما عندى مكانة وذكري. بولجاكوف صاحب التحفة الأدبية «المعلم ومرجريا» كتبها عام 1940، ولم تصدر إلا بعد موته عام 1967، وأعتقد أنها سبقت بواقعيتها السحرية ما قدمته أمريكا اللاتينية بعد أكثر من ثلاثين سنة، وقد زرت بيت بولجاكوف فى كييف وفيه عيادته، وكان مغلقا منذ المرحلة الستالينية واضطررت أن أقفز فوق سور حديقته الخلفية لأطل على داخله الحزين عبر زجاج النوافذ، هذا الكاتب أسبغ عليه ستالين رعايته طمعا فى استقطابه، لكن عندما أوغل بولجاكوف فى المصارحة رفع عنه الحماية وتركه شبه محجور عليه حتى مات فاقد البصر، كما زرت فى العاصمة الألبانية تيرانا بيت الكاتب إسماعيل كادريه، لكننى لم أجده، كان قد هرب إلى فرنسا، لك أن تتخيل مارأيته، شقة ضيقة خانقة فى الطابق الرابع بمساكن شعبية بائسة جدا تصعد إليها بدرج معتم ومتهدم مثل أسنان منخورة، مكان مقبض لكاتب عظيم جدير بنوبل التى رُشح لها أكثر من عشر سنوات ونالها من هم دونه بكثير.وقد ظل الديكتاتور أنور خوجه يحميه بالنمط الستاليني، وعند حد معين رفع عنه الحماية، لكنه لم يسحقه سحق ستالين لبولجاكوف، بل تركه يهرب إلى فرنسا. فالطغيان أيضا درجات، والإفلات الإبداعى ممكن فى أحيان نادرة. أما عن إضعاف الحريات للإبداع فهو أمر مشكوك فيه.
فى السابق، جعلت الثقافة والتجربة الاشتراكية الكاتب مسئولا أمام المجتمع تجاه القضايا الكبرى والحريات، فهل تخليت أنت عن كل هذا الآن؟
كان أبى صاحب ورشة مشهورة فى زمانها، يحيط بى أناس فقراء جدا متمثلون فى عمال الورشة والجيران الذين كانت معظم بيوتهم من الطين والبوص والقش على جانبى بيتنا الذى كان من طابقين بالطوب والخرسانة، وأيضا كنت أرى الأغنياء أصحاب السيارات. وهكذا بين النقيضين اكتشفت قبح التفاوت الفاحش بين البشر، ومنذ وقت مبكر فكرت فى ضرورة أن يوجد حل وسط، لتصير الحياة أطيب وأجمل، فكرت فى هذا قبل معرفة الفكر الاشتراكى ثم استمر ذلك بعد خلاصى من حشْر الأيديولوجيا. فى الجامعة كنت فى قلب اليسار نعم، لكن دون انتماء لأى تنظيم يساري، طبيعتى الشخصية لا تحتمل أن أقود أو أُقاد، جريا على مقولة الكاتب الأمريكى الإنسانى أرمنى الأصل الذى أحبه كثيرا «وليم سارويان»: «شعارى فى الحياة ألا أقود أحدا وألا يقودنى أحد»..
هل كان شعار ألا تقود وألا تقاد وراء اعتذارك عن قبول منصب وزير الثقافة؟
كنت فى تعسيلة القيلولة عندما أيقظتنى زوجتى قائلة ان هناك من يتصل من مجلس الوزراء، ورددت لأفاجأ بمن يطلب منى مقابلة المهندس إبراهيم محلب، فسألته لماذا، وعرفت أننى مرشح وزيرا للثقافة، فنفضت عن نفسى ثمالة النوم، واعتذرت فورا شاكرا حسن الظن بي، وقلت ببساطة «إننى لا أصلح وزيرا ومكانى الوحيد فى الثقافة أن أكون كاتبا وقارئا». وبعد أقل من ساعة اتصل بى المهندس إبراهيم محلب، ومن مكالمته أيقنت أنه رجل متحضر. قال لى إنه حرص على التحدث معى بنفسه لا ليضغط عليَّ لقبول المنصب، بل لأنه قدَّر صيغة اعتذاري، وأن المستشار عدلى منصور، رئيس مصر فى تلك الفترة العصيبة، هو من رشحنى للوزارة وقال له «حاول معه وإن كنت أعرف أنه لن يقبل». وهنا لابد أن أذكر إكبارى وتقديرى للمستشار عدلى منصور، هذا المصرى النادر الزاهد، الشجاع وعميق الثقافة، والذى سينصف التاريخ إنسانيته ونبله عندما يُكتَب التاريخ بشرف.
بأى معنى نفهم أن تقول عن نفسك أنك لا تصلح وزيرا للثقافة، وهل رفضت ترشيحك لجائزة الدولة التقديرية بالمعنى نفسه؟
إننى أحب الظل كثيرا، وأصير أفضل عندما أُترك لحالي، وقد يكون هذا نابعا من التكوين الأعمق لشخصيتى الذى لم أعد راغبا فى معاندته. ببساطة رفضت عرض أن أكون وزيرا للثقافة لحماية فردانيتي، والحفاظ على إيقاع حياة هو الأفضل بالنسبة لي، لا أتصور أن أُحرم من بهجة المواظبة على الغداء مع أسرتى الذى تواصل لربع قرن مرصعا بالضحك وحكاياتى المكررة لإبنيَّ اللطيفين وأمهما. ثم كيف سأستمتع بالقيلولة التى تجعل يومى يومين طازجين، بينما أخضع لطقوس استقبَلَ وودَّعَ وافتتح وحضر ودشَّن والتقى واجتمع. لا، هذا شيء فظيع لكاتب قارئ وهو فى وزارة الثقافة أفظع. أما اعتذارى عن قبول ترشيح اتحاد الكتاب لى لجائزة الدولة التقديرية، فباختصار، لأننى أرفض صيغة أن يسعى الكاتب للحصول على جائزة، فهذا مهين،
حين كنت تعيش فى المنصورة، كنت تُعامَل ككاتب مهم، حتى ظن كثيرون أنك من كتاب العاصمة، لكن فرط حبك للمنصورة جعلك «شوفينيا» بشكل واضح فى كتابتك عنها، ورغم أنك صرت قاهريا منذ عقود، مازلت متحيزا للمنصورة، فما السبب؟
المنصورة التى عرفتها لم يتبق منها إلا القليل لكنها ظلت بكامل نضارتها داخلي، تقوينى وتعزيني، فأنا لم أغادرها للإقامة فى القاهرة إلا وأنا فى الثامنة والثلاثين، منصورتى جزيرة ورد حقيقية منحتنى الجمال والحنو والحب. منصورتى كانت مدينة جميلة فعلا، وتحرض على إبداع الجمال. وهذا يفسر لماذا أنجبت المنصورة أجيالا من الفنانين والكتاب والمبدعين المتميزين؟ لهذا لا أزال أغار عليها وانتقم ممن يغدرون بها، وأتذكر أنه كانت أمام مقهى أندريّا على رصيف الكورنيش شجرة كافور ضخمة جدا عمرها يتجاوز المائة عام، تسمى «شجرة الشعراء» جلس فى ظلها الدكتور هيكل وشاعر الجندول على محمود طه وأحمد حسن الزيات صاحب «الرسالة» وغيرهم، كتبت عن هذه الشجرة قصة « العميان» موقعا أشد العقاب بمن قطعوها وما حولها من أشجار ببلاهة عمل فاشل لمنعطف من الجسر، وفى القصة آبت العصافير من سعيها عند الغروب فلم تجد أعشاشها الواقفة سوى أنقاض مكومة على الأرض، فجن جنونها وتوحشت مقتلعة بمناقيرها أعين من وقفوا يتفرجون على هذه المذبحة البيئية، وتحول المكان إلى ملتقى للعميان.
فى المنصورة كان جزء مقدس من يومى وقت العصارى أن أستأجر فلوكة لأتنزه بها فى النيل لساعة أو ساعتين. كانت المنصورة بلد كوزموبوليتانية جميلة ومتسامحة فعلا، عاصرت فيها بقايا الجالية اليونانية، وصالة الباتيناج والحدائق الممتدة بطول الكورنيش. جمال يحرض على إنتاج الجمال، هذا هو سر المنصورة، التى كانت، والتى أبقيتها جميلة فى داخلي، كمخطط نفسى وقائى لايزال يثبت جدواه.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.