يواجه البحث العلمي اتجاها مقلقا، فالاحتيال الأكاديمي لم يعد مجرد حالات فردية، بل أصبح صناعة متنامية تنمو بوتيرة أسرع من قدرة الدوريات العلمية المحكمة على مواكبتها. ◄ د. محمد شعبان: «السعي وراء التصنيف الجامعي يهدد مصداقية العلم ◄ د. أوين برييرلي: سياسة «انشر أو تنقرض» تقوض نزاهة الأبحاث وبينما كان الأمر في الماضي يقتصر على مواجهة بعض من الباحثين غير النزيهين، تعدى الوضع الآن هذه الفئة، حيث أصبح هناك منهج منظم للاحتيال العلمي، يتلخص فيما بات يعرف ب «مصانع الأبحاث» التي تنتج مقالات نمطية بالجملة، ووسطاء يضمنون النشر مقابل رسوم مالية، ودوريات تتجاوز معايير الجودة والمراجعة العلمية. هذه الكيانات تخفى نشاطها وراء تسميات براقة مثل «خدمات تحرير» أو «استشارات أكاديمية»، لكنها فى الواقع تقوم على إفساد العملية العلمية من أساسها، وتحول الاحتيال إلى صناعة. ◄ لعبة الأعداد ويشرح أوين برييرلي، الأستاذ بجامعة كينجستون البريطانية في مقال نشره بموقع «ذا كونفرسيشن» آلية عمل مصانع الأوراق البحثية، حيث يشير إلى أنها تعمل بأسلوب مشابه ل «مزارع المحتوى»، وهى شركات أو مجموعات تعمل على إنتاج كميات كبيرة من المحتوى، غالبا بسرعة وبأقل تكلفة، بهدف جذب الزيارات على الإنترنت أو النشر فى وسائل الإعلام، دون الاهتمام بجودة المعلومات أو دقتها. ويقول برييرلي: « مصانع الأوراق البحثية، تعمل بطريقة مشابهة، لكنها فى السياق الأكاديمي، فتغرق الدوريات بكمّ هائل من الأبحاث لتُربك أنظمة المراجعة، وتلجأ لاستهداف دوريات محددة أو ما يُعرف ب «القفز بين المجلات»، عبر إرسال الورقة ذاتها لعدة منصات فى وقت واحد، فإذا نجح جزء بسيط منها فى المرور، تحقق هذه الخدمات أرباحا كبيرة». ◄ معضلة كبرى بالطبع لم تكن تلك المصانع لتجد سوقا رائجة، إذا امتنع الباحثون عن التعاون معها، ومن المؤكد أن الاتهام الذى سيوجهه من يقرأ هذه السطور للباحثين بأنهم «كسالى»، ولكن برييرلى يقر فى مقاله بأن الواقع أعقد بكثير. ويقول إن « ثقافة النشر أو الفناء، تدفع العلماء لإنتاج مستمر وإلا خسروا التمويل، ومع تقليص الحكومات للإنفاق على البحث العلمي، تقلصت الموارد وزادت المنافسة، وهذا يخلق معضلة، أن الباحث بحاجة إلى نشر أبحاث لينال التمويل، لكنه بحاجة إلى التمويل أصلا لإجراء الأبحاث. ويتابع أنه «في ظل العولمة، يجد الباحثون أنفسهم فى «بحر من الأصوات المتنافسة»، مما يجعل إغراء الطرق الملتوية أكثر قوة». ويشير البروفيسور المصري د. محمد شعبان، أستاذ الهندسة الكهربائية بجامعة تشونغ تشنغ الوطنية بتايوان، إلى سبب آخر يدفع بهذه الصناعة إلى التنامي، وهو سعى الجامعات وراء التصنيف العالمي. ويقول في تصريحات ل «الأخبار» إن «تصنيف الجامعات يعتمد على أرقام النشر البحثي، وليس على جودة الأبحاث، وهذا يدفع بعض المسئولين للتغاضى عن الانتهاكات، ويصبح الهدف هو الكم لا الكيف، حتى لو كان على حساب النزاهة العلمية.» ◄ اقرأ أيضًا | عقول المستقبل.. الذكاء الاصطناعي يُزاحم كليات القمة ويُعيد تشكيل خريطة التعليم ◄ خوارزميات الذكاء الاصطناعي ويشير شعبان إلى معضلة تتمثل فى تقنيات الذكاء الاصطناعى التوليدي، والتى عززت من هذه الصناعة الاحتيالية، مما أدى لارتفاع هائل فى أعداد الأبحاث «المصطنعة» التي تستخدم خوارزميات الذكاء الاصطناعي لإنتاج مقالات بسرعة فائقة، اعتمادا على بيانات سطحية، مع تلاعب بالأدلة، أو تزوير للبيانات، أو سرقات أدبية. ويقول شعبان «المراجعون، الذين كانوا يتلقون عشر أوراق فى السنة، أصبحوا يتلقون 30 أو 40 فى غضون أشهر قليلة، ما يغرقهم فى سيل من الأوراق المزيفة، ويدفع بعضهم لاستخدام الذكاء الاصطناعى ذاته لمراجعة الأبحاث، وقد ظهرت بالفعل حالات لإدخال نصوص مخفية داخل الأوراق (مثل كتابة بيضاء على خلفية بيضاء) لإعطاء تعليمات لبرامج المراجعة الآلية بتمرير البحث». ورغم أن نظام المراجعة العلمية هو حجر الأساس لضمان الجودة، إلا أنه بطيء وغير كامل، حتى أن ألبرت أينشتاين نفسه كان يكره هذا النظام. وبسبب بطئه، يضطر بعض الباحثين لنشر أعمالهم أولا عبر منصات ما قبل النشر، حتى قبل أن تخضع لمراجعة محكمة، خشية أن يُسلب منهم السبق العلمي. ويوضح برييرلي فى مقاله أن « الأرقام تكشف عن أن الظاهرة لم تعد فردية بل صناعية، ففى التسعينيات كانت حالات سحب الأبحاث بالجملة شبه معدومة، أما فى عام 2020 فقد وصلت إلى نحو 3000 حالة، وقفزت إلى أكثر من 6000 فى عام 2023، أى ثلاثة أضعاف حالات السحب الفردية». ◄ الطريق إلى الأمام إذن، فالأمر لم يعد يتعلق فقط ب «تنظيف الساحة» من علماء غير نزيهين، بل بإنقاذ البنية التى يقوم عليها العلم ذاته، فحين تنمو الأبحاث المزيفة أسرع من الأبحاث الحقيقية، وحين يعجز البشر عن مجاراة فيضان إنتاج الذكاء الاصطناعي، تصبح الحاجة ملحة لإيجاد حلول جديدة. ويقول برييرلي: «على المجتمع العلمى أن يعترف بأن أنظمته الداخلية، مثل مقاييس النشر، وآليات التمويل، وحوافز الترقية الأكاديمية ، خلقت ثغرات يستغلها المحتالون». ويطرح شعبان حلولا بعضها بدأ يأتى ثماره، والآخر فى طور التجريب، ومنها أن الهند بدأت تخصم نقاط فى التصنيف للجامعات التى يتورط باحثوها فى أبحاث يتم سحبها بسبب مشاكل النزاهة، وخطة دار نشر «رويال سوسايتي» البريطانية التى تتيح النشر المجانى للجامعات عند تحقيق حد معين من الاشتراكات، بهدف تقليل الضغط المالى على الباحثين ودور النشر. وحتى تتم معالجة هذه القضايا الجوهرية، ستظل «صناعة الاحتيال» مزدهرة، مهددة بزعزعة أحد أهم مرتكزات الحضارة الإنسانية، وهى البحث الأكاديمي.