سميحة شتا - مروى حسن حسين - محمد جمال الزهيرى - نوال سيد عبدالله - عمرو جلال هى دولة مصطنعة للقيام بوظيفة بعينها نجحت باقتدار فى تحويل نصوص ورموز توراتية إلى أجندة سياسية قائمة على التوسع ومحاولة اعتبارها دولة لكل يهود العالم والتعامل معهم على مفهوم الاختيار الإلهى وأنهم شعب الله المختار لدرجة أن هناك اعتقادا جازما لدى المستوطنين الإسرائيليين وأعدادهم تتزايد بصورة كبيرة وسجل جرائمهم يتوسع يوما بعد يوم بأن ما يقومون به هو أمر إلهى وفقا لمفهوم الفداء المقدس بعد أن انتهى الصراع المستمر بين هوية الدولة علمانية مدنية او يهودية دينية لصالح التيار الأخير، وهذا ما تكشف عنه المؤشرات الأخيرة والصعود الكبير للأحزاب الدينية التى تحولت إلى رمانة الميزان فى القرارات السياسية وكان هذا واضحا فى أن إعادة وهم إسرائيل الكبرى إلى صدارة المشهد يعود إلى رموز الحكومة الأخيرة التى تشكلت فى نهاية عام 2022 بعد آخر انتخابات للكنيست حيث حازت الأحزاب الدينية سواءً من التيار الصهيونى والمتزمت والحريديم 30 بالمائة من الأصوات وزادت أصواتها إلى 45 بالمائة خلال عامين وكلها تعتنق منهج الصهيونية الدينية القائم على تأسيس دولة دينية من نهر الأردن إلى البحر المتوسط يعيش فيها اليهود تحت سيادة ذاتية كاملة واعتبرها أداة إلهية وخطوة للخلاص النهائى فى آخر الزمان، وقد نجحت إسرائيل فى الاستخدام السياسى لتلك الأساطير والأوهام وآخرها معاداة السامية التى استخدمها نتنياهو كسيف مسلط على أى من قادة العالم له تحفظات أو انتقادات على جرائم إسرائيل الأخيرة فى قطاع غزة والنموذج الأبرز المواجهة بين ماكرون ونتنياهو وفى هذه التقارير محاولة للتعرف على المزيد. العلمانية والمدنية هى الحل منذ نشأة المشروع الصهيونى، ظل السؤال حول هوية الدولة هل هى دولة يهودية دينية أم دولة علمانية مدنية؟ حاضرًا فى الجدل الداخلى الإسرائيلى. فبينما تأسست إسرائيل عام 1948 على يد نخبة يغلب عليها الطابع العلمانى الاشتراكى، أخذت الكفّة تميل تدريجيًا لمصلحة التيارات الدينية، خاصة بعد صعود اليمين الدينى القومى منذ سبعينيات القرن الماضى، ورغم الهيمنة السياسية العسكرية لتيار «يهودية الدولة»، فإن هناك أصواتًا، حزبية وثقافية وأكاديمية، لا تزال تعارض هذا الاتجاه وتدعو لإسرائيل مدنية، ديمقراطية، تفصل بين الدين والسياسة، هذه الأصوات قد تبدو أحيانًا خافتة، لكنها تمثل رافدًا مهمًا فى فهم الصراع الداخلى الإسرائيلى. لم يكن قادة الحركة الصهيونية الأوائل مثل تيودور هرتزل، وحينذاك بن جوريون، من دعاة الدولة الدينية، بل تبنوا خطابًا سياسيًا قوميًّا يعتمد على فكرة «الشعب اليهودى» أكثر من اعتماده على العقيدة الدينية، بل إن كثيرًا من المؤسسين الأوائل كانوا متأثرين بالاشتراكية الأوروبية، ورأوا فى المشروع الصهيونى فرصة لبناء «دولة حديثة» على النمط الغربى. ويرى المحللون أنَّ القوى الدينية، التى وضعت نصب أعينها تحويل إسرائيل إلى دولة شريعة، هى القوى الدينية الصهيونية التى أخذت طابعًا «معتدلًا» فى العقود الأولى لقيام الدولة، لكنْ إذا أمعنَّا النظر جيدًا نصل إلى خلاصة مفادها أنَّه من المنطقى أنْ تطرح الصهيونية الدينية بالذات مثل هذه المهمات، لأنَّ الدولة بالنسبة إليها هى مقدمة مجىء المخلص وللدولة معان دينية مسيانية، ولذلك فمن الأصح إطلاق اسم السلفية على الحركات الصهيونية الدينية التى تتوق إلى إعادة ربط الدين بالدولة فعليًّا وواقعيًّا وليس جوهريًّا فقط. بدأ التحول الجذرى بعد حرب يونيو 1967، التى انتهت باحتلال القدسالشرقية والضفة الغربية، فقد أعادت الحرب إحياء الرمزية الدينية للأرض، وأطلقت موجة من الاستيطان قادتها تيارات «الصهيونية الدينية»، التى رأت أن احتلال «يهودا والسامرة» هو تحقيق لوعد إلهى. منذ ذلك الحين، أخذ التيار الدينى القومى فى فرض نفسه لاعبًا سياسيًا محوريًا، وبدأت الأحزاب اليمينية تستخدم اللغة التوراتية فى الخطاب السياسى، حتى بات الحديث عن «أرض الميعاد» و»شعب الله المختار» جزءًا من خطاب الدولة الرسمى، ومع صعود بنيامين نتنياهو وحلفائه من أحزاب اليمين الدينى المتشدد، ترسخ هذا التحالف الدينى السياسى أكثر فأكثر. رغم قوة التيار الدينى، فإن المشهد الإسرائيلى لم يخلُ من معارضة علمانية واضحة. حزب ميرتس اليسارى لطالما رفع شعار الفصل بين الدين والدولة، ودعا إلى دولة مدنية ديمقراطية تعترف بحقوق الفلسطينيين داخل إسرائيل. بعض أجنحة حزب العمل تبنت موقفًا مشابهًا، رغم تراجع الحزب سياسيًا خلال العقدين الأخيرين. خارج الأحزاب، برزت شخصيات أكاديمية وثقافية مثل الفيلسوفة يهوديت بتلر وعدد من الأكاديميين الإسرائيليين التى تنتقد بجرأة مفهوم «يهودية الدولة»، معتبرة أنه يكرّس التمييز ويحول دون قيام نظام ديمقراطى حقيقى. إلى جانب ذلك، ظهرت حركات شبابية ومنظمات مجتمع مدنى تنادى بالعلمانية، خاصة مع تزايد نفوذ الحاخامات فى التعليم، وفرض قيود دينية على الفضاء العام. فى مقابل هيمنة التيار الأرثوذكسى على تعريف «من هو اليهودى»، ظهرت تيارات يهودية إصلاحية ومحافظة داخل إسرائيل وإن كانت أقلية مقارنة بالولايات المتحدة، هذه التيارات ترفض احتكار الأرثوذكسية لليهودية، وتدعو إلى مقاربة أكثر انفتاحًا لليهودية تتماشى مع قيم الدولة الحديثة. هذه الحركات ترى أن الهوية الإسرائيلية يجب أن تقوم على أساس مدنى ديمقراطى، لا على أساس دينى حصرى، وهو ما يضعها فى مواجهة مع التيار الأرثوذكسى الذى يتمتع بنفوذ سياسى واسع عبر أحزاب مثل «شاس» و»يهدوت هتوراه». كشفت أحداث السنوات الأخيرة، خاصة المظاهرات الواسعة فى 20232024 ضد خطط حكومة نتنياهو لإضعاف القضاء، عن حجم الانقسام الداخلى، مئات الآلاف من الإسرائيليين نزلوا إلى الشوارع دفاعًا عن «الديمقراطية»، معتبرين أن هيمنة التيار الدينى القومى تهدد بتحويل إسرائيل إلى دولة دينية استبدادية. هذه الاحتجاجات لم تكن مجرد رد فعل على إصلاحات قضائية، بل عبّرت عن صراع أعمق بين مشروعين متناقضين: مشروع يرى فى إسرائيل «دولة يهودية دينية» تستند إلى التوراة والهوية القومية المغلقة. ومشروع علمانى مدنى يسعى للحفاظ على مؤسسات ديمقراطية ليبرالية وفصل الدين عن الدولة. الاحتجاجات بيّنت أن التيار العلمانى، رغم ضعفه السياسى، يمتلك قدرة على الحشد المجتمعى، ويشكل وزنًا لا يمكن تجاهله فى معادلة الصراع الداخلى. تعيش إسرائيل اليوم انقسامًا داخليًا غير مسبوق بين معسكرين: الأول يريد ترسيخ أسطورة «الدولة الدينية القومية» باعتبارها تجسيدًا لوعد إلهى، والثانى يدعو إلى دولة مدنية ديمقراطية على النمط الغربى. اقرأ أيضًا | ترامب يُهدد بالاستيلاء الكامل على واشنطن.. ورد قوي من مسؤولي العاصمة أرض بلا شعب.. عنوان واحد لأكاذيب كثيرة تمثل الأساطير الدينية إحدى أهم الركائز التى اعتمد عليها الخطاب السياسى الصهيونى فى بناء مشروعه الاستيطانى منذ البدايات الأولى، إذ نجحت الحركة الصهيونية فى تحويل نصوص ورموز توراتية إلى أدوات سياسية لإضفاء شرعية على إقامة دولة لليهود فى فلسطين. هذا التوظيف لم يكن بريئًا أو عرضيًا، بل كان جزءًا من إستراتيجية مدروسة استهدفت صياغة وعى جماعى جديد لدى اليهود فى العالم، وتسويق مشروع استعمارى أمام الرأى العام الغربى والدولى. منذ نشأة المشروع الصهيونى، اعتمد منظّروه على إعادة تدوير الأساطير الدينية وتحويلها إلى أدوات سياسية لبناء شرعية لدولة الاحتلال فى فلسطين. فالشعارات مثل «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، و»شعب الله المختار»، و«أرض الميعاد»، و»دولة لكل يهود العالم»، تحولت من نصوص توراتية أو عبارات دعائية إلى أسس أيديولوجية تمنح المشروع الاستيطانى غطاءً دينيًا وأخلاقيًا. لم يكن الهدف مجرد بعث للذاكرة الدينية أو الإيمان بالرمزية الروحية، بل كان صناعة رواية بديلة للتاريخ تعطى الانطباع أن الصهيونية ليست مشروعًا استعماريًا حديثًا، وإنما تحقيق لوعد إلهى. أول تلك المزاعم مقولة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض». وهى عبارة لم ترد فى النصوص الدينية مباشرة، لكنها ولدت من خلفية توراتية صاغها الخطاب الصهيونى على شكل شعار سياسى. الهدف منها كان نفى وجود الشعب الفلسطينى وتقديم فلسطين وكأنها فضاء فارغ ينتظر «أصحابه الأصليين». غير أن الحقائق التاريخية تكذب هذا الادعاء جملة وتفصيلاً. ففلسطين كانت على مدار قرون طويلة مأهولة بالسكان، مزدهرة بالمدن والقرى والزراعة والتجارة، كما تثبت الوثائق العثمانية والإحصاءات البريطانية قبل النكبة. أما أسطورة «شعب الله المختار»، فهى من أكثر المقولات التوراتية التى جرى استغلالها سياسيًا. ففكرة الاصطفاء الإلهى لبنى إسرائيل كانت فى الأصل ذات بعد دينى روحى، لكنها فى الخطاب الصهيونى تحولت إلى أساس لحق حصرى فى الأرض والهوية والدولة. وفى السياق نفسه، برزت أسطورة «أرض الميعاد» لتشكل الرابط المباشر بين العقيدة الدينية والجغرافيا. فقد أعاد الصهاينة قراءة نصوص توراتية قديمة باعتبارها وعدًا إلهيًا بملكية فلسطين. بهذا الشكل صار الاحتلال يقدم نفسه وكأنه تنفيذ لمشيئة إلهية، وأصبحت مقاومة الفلسطينيين والعرب تُصوَّر كأنها اعتراض على قدر سماوى. ولم ينجح المشروع الصهيونى عبر الإقناع الدينى أو الأخلاقي، بل فُرض بالقوة العسكرية وبالدعم الاستعمارى الغربى. قرار تقسيم فلسطين عام 1947 لم يكن ترجمة لوعد إلهى، وإنما حلًا سياسيًا فرضته التوازنات الدولية، ورغم ذلك فقد رفضته الأغلبية الساحقة من السكان الأصليين. ثم جاءت حرب 1948 وما تلاها من مجازر وتهجير قسرى لتكشف أن قيام دولة الاحتلال لم يكن تحقيقًا لنبوءة سماوية، بل نتيجة مباشرة لاستخدام العنف وفرض الأمر الواقع. إن الرد على هذه المزاعم لا يتوقف عند حدود النقاش التاريخى والدينى، بل يتطلب فضح المنطق الذى يقوم على تحويل الدين إلى سلاح سياسى. فالقضية الفلسطينية ليست صراعًا دينيًا بين المسلمين واليهود أو بين اليهود والمسيحيين، وإنما هى قضية استعمارية إحلالية تستخدم الدين لتبرير الاستيطان. عندما تُكشف هذه الحقيقة، يسقط الغطاء المقدس الذى يحاول الاحتلال أن يتدثر به، ويظهر المشروع الصهيونى على حقيقته كمشروع استعمارى لا يختلف فى جوهره عن تجارب الاستعمار الأخرى التى عرفها العالم. إن خطورة هذه الأساطير تكمن فى أنها لم تبقَ فى دائرة الشعارات أو الخطابات الدعائية، بل تحولت إلى أساس لصياغة السياسات والهوية والوعى الجماعى. فهى التى منحت الاحتلال القدرة على تقديم نفسه كقضية عادلة ومقدسة، بينما جرى تهميش الرواية الفلسطينية وتصويرها على أنها حالة رفض عبثى أو إرهاب بلا مبرر. كما أن هذه الأساطير نجحت فى تسويق المشروع الصهيونى على المستوى الدولى، حيث تبنى كثير من الساسة والمثقفين الغربيين هذه الرؤية التى تماهت مع خلفياتهم الدينية والثقافية. وهكذا، وجد الفلسطينيون أنفسهم فى مواجهة مشروع يستند إلى دعم سياسى وعقائدى فى آن واحد، ويستمد قوته من قدرته على إعادة صياغة التاريخ والواقع وفق منطق أسطورى يخلط بين المقدس والسياسى. من بن جوريون إلى نتنياهو.. تعددت الوجوه والخرافات واحدة منذ تأسيس الكيان الإسرائيلى عام 1948، على حساب الشعب والدولة الفلسطينية، لطالما كانت النُخبة السياسية الإسرائيلية بارعة فى تسويق أوهام كبرى للرأى العام الداخلى والخارجي، وذلك عبر أوهام استندت إليها شرعية الدولة المصطنعة، وتحولت مع مرور العقود إلى أدوات لإدامة الصراع وفرض واقع القوة بالقهر والدعاية. فمنذ تولى ديفيد بن جوريون، أول رئيس وزراء للكيان الصهيوني، وصولًا إلى بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الحالي، وصاحب أطول فترة حكم فى تاريخ الكيان المحتل، شَكَّل «بيع الوهم»، ركيزة أساسية فى الاستراتيجية السياسية الإسرائيلية، وشغل أربعة عشر شخصًا منصب رئيس وزراء إسرائيل، خمسة منهم خدموا فى مناسبتين غير متتاليتين، وكانت البداية من بن جوريون الذى يُعد أحد أبرز «مهندسى الأوهام»، والذى رَسَّخ مقولة: «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، كذريعة لإقامة الكيان، متجاهلًا التاريخ والجغرافيا والوجود الفلسطينى الممتد لقرون، وصَدَّر للعالم صورة أن فلسطين مجرد صحراء مهجورة تنتظر من يُعَمِّرها، وبالرغم من أن الوقائع أثبتت زيف تلك المقولة، إلا أنها وجدت صدى واسعًا لدى الغرب الذى كان يبحث عن أى تبرير أخلاقى لدعم المشروع الصهيوني. وعمل بن جوريون، بجهد على تسويق فكرة «الضحية» التى تستحق التعويض، مُعتمدًا على إرث المحرقة النازية، لابتزاز أوروبا أخلاقيًا وسياسيًا، ما مَهَّد الطريق لاعتراف الأممالمتحدة بإسرائيل عام 1948. وبعدما وضع بن جوريون، حجر الأساس لتسويق الأوهام، جاء ليفى إشكول الذى ورث دولة أكثر استقرارًا، لكنه واجه تحديًا وجوديًا جديدًا مع تصاعد نشاط منظمة التحرير الفلسطينية.. وقام إشكول ببيع وهم أن إسرائيل تريد السلام، ولكن «ليس هناك مَن تتحدث معه»، ثم بدأ فى تحويل خطابه بعد حرب 1967 إلى إقناع الإسرائيليين بأن الاحتلال ضمانة لأمنهم وليس مصدرًا رئيسيًا للتهديد، وذلك فى أعقاب استيلائه على أراضٍ منها سيناء المصرية ومرتفعات الجولان السورية. ثم جاءت جولدا مائير، والتى وُصفت ب»المرأة الحديدية»، لتكمل مسيرة تسويق الأوهام، بعدما اشتهرت بعبارتها الشهيرة: «لا يوجد شيء اسمه الشعب الفلسطيني»، وهو ما لم يكن مجرد جملة عابرة، بل كان انعكاسًا لسياسة كاملة تهدف إلى محو الهوية الفلسطينية وتكريس فكرة أن النزاع مجرد خلاف حدودى مع دول عربية مجاورة. وفى عهدها، هرع الكيان الصهيوني، للسلام بعدما انهزم من الجيش المصرى الذى نجح فى تحطيم أسطورة وهمية أخرى رَوَّج لها الجيش الإسرائيلي، حينما قال إن «جيشه لا يُقهر»، وهى مقولة أثبت الجيش المصرى الباسل عدم صحتها، عندما لَقَّن الجيش الإسرائيلى درسًا قاسيًا خلال مواجهة البلدين عام 1973، وقامت القوات المصرية بسحق الجيش الإسرائيلي. ومع صعود مناحم بيجن، أواخر السبعينيات، ظهر نوع آخر من الأوهام التى رَوَّج لها الصهاينة، وهو وهم «السلام العادل»، حيث نجح بيجن، الذى قاد فى السابق عصابات إرهابية ك «الإرجون»، فى تقديم نفسه للعالم كرجل سلام حينما وَقَّع اتفاقية كامب ديفيد مع مصر عام 1978، حيث نجح فى إقناع الغرب بأن إسرائيل «قدّمت تنازلات مؤلمة» مقابل السلام.. لكنه داخليًا ومن جانب آخر، زاد من وتيرة بناء المستوطنات بالضفة الغربية. أما عن رئيس الوزراء الأسبق إيهود باراك، فقد حاول الترويج إلى أنه قدم «أكثر عرض سخي» فى التاريخ للفلسطينيين من خلال قمة «كامب ديفيد 2000» مع رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات، وبينما فشل المفاوضات كان متوقعًا، إلا أنه استخدم هذا الفشل لترسيخ الوهم الإسرائيلي، بأن «الفلسطينيين يرفضون السلام»، متجاهلًا أن عرضه احتفظ بكتل استيطانية كبيرة وسيادة إسرائيلية على القدس. وفى عهد أرييل شارون، استمر تسويق الوهم أيضًا، فحينما أعلن عن «الانسحاب من غزة» عام 2005، قَدَّمَه للعالم كخطوة شجاعة نحو حل الدولتين، لكن الواقع أثبت أن الانسحاب لم يكن سوى إعادة تموضع عسكرى لتحويل القطاع إلى سجن كبير، أما بنيامين نتنياهو، فيُعتبر الوريث الأبرز لمدرسة تسويق الأوهام، فمنذ وصوله إلى السلطة منتصف التسعينيات، لم يكفّ عن ترديد أسطورة «الأمن الأبدى لإسرائيل»، باعتبار أن أى تنازل للفلسطينيين يُعد تهديدًا وجوديًا، واعتمد نتنياهو خطابًا مزدوجًا، ففى الداخل كان يزرع الخوف من العرب والفلسطينيين ليكسب ود الناخبين، وفى الخارج يُقَدِّم نفسه كرجل قادر على حماية الغرب من «الخطر الإيرانى والإرهاب الإسلامي»، ويمكن الجزم، بأن ما يجمع بين رؤساء وزراء دولة الاحتلال، إدراكهم العميق لقوة «الحرب النفسية» والدعاية السياسية.. فقد اعتمدت إسرائيل منذ ولادتها، على الإعلام والدبلوماسية بقدر ما اعتمدت على الجيش، فكل زعيم جاء بنسخة جديدة من الوهم، لكن الهدف ظَلَّ واحدًا وهو شرعنة الاحتلال وتثبيت المشروع الصهيوني. وحاليًا، وبعد عقود من الترويج ل «السلام الاقتصادي» و»التطبيع الإقليمي»، جاءت حرب غزة المستمرة منذ أكتوبر 2023 لتسقط الأقنعة، حيث ظهر جليًا للعالم أجمع، أن الأمن الذى رَوَّج له نتنياهو ليس سوى سراب. إسرائيل الكبرى.. الوهم الأكبر لا يقتصر ترويج نتنياهو لأوهام «إسرائيل الكبرى» على خطابه الدعائى الأخير، وإنما تخرج الأوهام من رحم دائرة أوسع، صاغتها أيدلوجيات «الصهيونية الدينية»، وسعت إلى ترسيخها إقليميًا ودوليًا بما يساهم فى توسيع دائرة تمدد الاستيطان الإسرائيلى على حساب دول الجوار. فى 19 مارس 2023، وبعد ثلاثة أشهر من تشكيل حكومة «الليكود»، أثار وزير المالية المتطرف بيتسلئيل سيموتريتش ضجة عالمية حين رفع فى مؤتمر بالعاصمة الفرنسية باريس خارطة ما وصفه ب«إسرائيل الكبرى»، وأنكر وسط امتعاض الحضور أى وجود للشعب الفلسطيني، وزاد السخط مع ابتلاع الخارطة كامل الأراضى الأردنية، ودول عربية أخرى. وفى مايو 2024، أقر سيموتريتش مجددًا بهدف حكومة نتنياهو، الرامى إلى إقامة دولة يهودية، تمتد حدودها إلى العاصمة السورية دمشق. وفى مقابلة لفيلم وثائقى باللغة الفرنسية تحت عنوان «إسرائيل: المتطرفون فى السلطة»، قال سموتريتش: «أريد دولة يهودية، تتناغم مع إرادة الشعب اليهودي». وعندما سُئل عما إذا كانت إسرائيل تهدف إلى توسيع فرض سيادتها على أراضٍ فى دول محيطة، ابتسم وقال نصًا: «لا بأس، لكن تنفيذ الأمر يتطلب تريثًا. خطوة تلو خطوة». ومع الجهود المبذولة فى هذا الصدد، أدرجت وزارة التعليم الإسرائيلية تدريس شرعنة الاحتلال الإسرائيلى للبنان وسوريا فى مناهج الأطفال. ورغم أن تل أبيب لم تعلن رسميًا عزمها احتلال لبنان وسوريا، أو توطين المهاجرين اليهود فى الأراضى المحتلة حديثا بالبلدين العربيين، إلا أن تصريحات نتنياهو الأخيرة ومعها خطط سيموتريتش، تزيد التحسبات من احتواء بنك الأهداف الإسرائيلى على توسيع جغرافيا الاحتلال على حساب أراضٍ جديدة فى الشرق الأوسط من خلال غزو دول عربية محيطة. إذا كان ذلك على صعيد ما يُعرف ب«الجوار الإسرائيلي»، فلا يمكن عزله عما يجرى فى الأراضى الفلسطينيةالمحتلة، ووفقًا لفيلم استقصائى صادر أواخر 2024 تحت عنوان «الفداء المقدس»، تتكشف الدوافع اليهودية المتطرفة وراء حركة الاستيطان الإسرائيلى فى الضفة الغربية على سبيل المثال. كما يكشف الفيلم استراتيجية إسرائيل الاستعمارية طويلة الأمد لتهجير الفلسطينيين وتوسيع سيطرتها الإقليمية بهدف إنشاء «إسرائيل الكبرى» عبر العنف والترهيب والاستيلاء على الأراضي. تم تصوير الفيلم الوثائقى بعد وقت قصير من بدء الإبادة الجماعية فى غزة فى 7 أكتوبر 2023، ويستخدم لقطات حصرية وشهادات من المستوطنين وضحاياهم والسياسيين المتطرفين من اليمين المتطرف والجنود الإسرائيليين السابقين، مما يلقى الضوء على الحملة المنهجية الأوسع التى تشنها إسرائيل من العنف الإبادى والتطهير العرقي. وإذا كان ما يجرى فى قطاع غزة هو بيت قصيد التطلعات التوسعية الإسرائيلية، فلا يغيب عن مشاهد الإعداد لتلك المشاريع دأب وزراء إسرائيليين من اليمين المتطرف، مثل بتسلئيل سموتريتش، وإيتمار بن جافير، وأفيجدور ليبرمان، وأميحاى إلياهو، على الترويج لتبريرات وسياسات صهيونية قومية متطرفة. فى 3 يناير 2023 (قبل 7 أكتوبر 2023)، عبر بن جافير وسموتريتش علنًا عن رغبتهما فى طرد الفلسطينيين من غزة. حينها وصفت صحيفة «تايمز أوف إسرائيل» سياسات ومواقف حزب «عوتسما يهوديت» (القوة اليهودية) الصهيونى المتطرف، الذى ينتمى إليه بن جافير وإلياهو، بأنها «فاشية جديدة». إلا أن وزير الحكومة بن جافير، زعيم حزب «عوتسما يهوديت»، انضم إلى سياسيين آخرين من اليمين المتطرف فى حزب «الصهيونية الدينية»، و«الليكود» فى مؤتمر «الاستعداد للاستيطان فى غزة» بتاريخ 21 أكتوبر 2024. وخلال المؤتمر، أكد ضرورة «تشجيع» سكان غزةالفلسطينيين على الرحيل نهائيًا. ورأت النائبة عن حزب «الليكود»، ماى جولان، أن «الاستيلاء على الأراضى الفلسطينية» وإعادة بناء المستوطنات اليهودية فى غزة سيكون درسًا لن ينساه «العرب» أبدًا. ودعت منظمة المؤتمر، دانييلا فايس، إلى تطهير غزة عرقيًا لأن الفلسطينيين «فقدوا حق العيش هناك». بينما زعمت منظمة «ناخالا» التابعة لفايس أنها حشدت حتى الآن 700 عائلة يهودية، تمهيدًا للاستيطان فى قطاع غزة بمجرد إجلاء الفلسطينيين هناك. إخفاق بعد إخفاق .. جيش فى ورطة «نحن نقف اليوم أمام أزمة وجودية غير مسبوقة: فقدان الثقة، انهيار سلاح البر، شلل الصيانة، نزيف الكفاءات، غياب الرؤية، أزمات فى القيادة، واعتماد مفرط على الجو والاستخبارات.. كل هذه التراكمات تجعل من الصعب على الجيش الإسرائيلى تحقيق الحسم المنشود».. هكذا كتب جنرال الاحتياط الإسرائيلى يتسحاق بريك فى معاريف بمناسبة مرور أكثر من عامين على اندلاع الحرب فى غزة. أما إذا ما بحثنا فى التاريخ سنجد أنه طالما افتخرت إسرائيل بجيشها الذى يوصف ب الجيش الذى لا يُقهر وصاحب الذراع الطولى واعتبار أنهم المؤسسة الضامنة لبقاء الدولة غير أن تحولات العقد الأخير من حرب لبنان الثانية 2006 إلى حرب غزة 2014 ثم إلى المواجهات الراهنة فى غزةولبنان وإيران واليمن أظهرت أن هذا الجيش لم يعد فى ذروة جاهزيته وأنه أصبح فى ورطة كبرى معقدة. أبرز ما يعانيه جيش الاحتلال هو أن الخدمة العسكرية التى كانت تُعد واجبًا وطنيًا مقدسًا وبوابة للاندماج فى النخبة الاقتصادية والسياسية أما اليوم فأصبحت لعنة على من أصابه الدور والفجوة تتسع بين المجتمع والجيش خاصة فى ظل الحكومة اليمينية المتطرفة التى أدخلت البلاد فى أزمات داخلية وخارجية. الجيش الإسرائيلى نفسه أقر لأول مرة أنه يتعرض لاستنزاف كبير فى صفوفه وافتقاره لما يقارب 7500 جندى حسب ما أوردته صحيفة معاريف العبرية وجاء هذا الاعتراف الرسمى ليكشف عن أزمة تتفاقم داخل المؤسسة العسكرية الإسرائيلية فى وقت تشهد فيه دولة الاحتلال تصعيدًا متعدد الجبهات من المفترض أنه يتطلب جاهزية عسكرية قصوى. مراكز الأبحاث الإسرائيلية نشرت دراسات تحذر الدولة من قرب انهيار سلاح البر الإسرائيلى الذى تقلص حجمه إلى الثلث تقريبا خلال العقدين الماضيين. وسلطت الضوء على غياب أى رؤية استراتيجية لإعداد الجيش لحروب متعددة الجبهات وغياب التنسيق مع الصناعات العسكرية لتطوير أسلحة تتناسب مع التحديات المقبلة. وانتقدت الدراسات ثقافة الكذب والإنكار داخل المؤسسة العسكرية حيث تدار التحقيقات بشكل غير جدى وتغيب المحاسبة الحقيقية. وخلصت الدراسات إلى أن الجيش الإسرائيلى يعتمد بشكل مفرط على سلاح الجو والاستخبارات والوحدات الخاصة وهو ما قد يوفر نجاحات تكتيكية محدودة لكنه لا يقدم حلا للحروب طويلة الأمد ولا لمعارك المدن والأنفاق حيث تفرض المقاومة الفلسطينيةواللبنانية نمطا مختلفا من القتال يستنزف القوات الإسرائيلية. النتيجة التى تشير لها تلك الدراسات والتحليلات هى أن جيش الاحتلال يقف اليوم أمام أزمة وجودية وورطة غير مسبوقة تشمل فقدان الثقة وانهيار سلاح البر وشلل الصيانة ونزيف الكفاءات وغياب الرؤية وأزمة ثقافية واعتماد مفرط على الجو والاستخبارات وخلصت الى أن هذه التراكمات تجعل من الصعب على الجيش الإسرائيلى تحقيق الحسم الذى طالما تغنت به قياداته ما ينذر بتداعيات استراتيجية خطيرة على مستقبل دولة الاحتلال فى حال استمرار الحرب. ملامح نهاية المشروع الصهيونى بحلول 2065 من المقولة الشهيرة: «الديموجرافيا هى القدر»، هذه العبارة تبدو أكثر انطباقًا على الحالة الإسرائيلية من أى سياق آخر، فإسرائيل التى تأسست على فكرة الدولة اليهودية الحديثة ذات الطابع الصهيونى العلماني، تجد نفسها اليوم أمام تحول سكانى هائل يهدد الأسس التى قامت عليها، وفق دراسة نشرها مركز الأبحاث الأسترالى «بيرز آند إيريتيشنز» ويتمثل هذا التحول فى النمو السكانى المتسارع للحريديم (اليهود المتدينين المتشددين)، إلى جانب استمرار الزيادة الطبيعية لدى المجتمع العربى الفلسطينى داخل الخط الأخضر، وتشير التقديرات إلى أن الحريديم يشكلون اليوم نحو 13.5% من سكان إسرائيل (2023)، لكن بحلول عام 2065 سيقتربون من 31.3%، أما عرب الداخل فيمثلون نحو 20%، الأخطر أن نصف الأطفال تحت سن الخامسة عشرة فى منتصف القرن الحالى سيكونون من خلفية حريدية، وهذا يعنى ببساطة أن البنية الاجتماعية والفكرية للدولة ستشهد انقلابًا جوهريًا، بحيث تفقد إسرائيل هويتها العلمانية بل وربما تفقد قدرتها على البقاء كدولة ذات اقتصاد حديث ومؤسسات مستقرة. وتتبنى الحريديم قيمًا تختلف جذريًا عن القيم السائدة لدى بقية اليهود فى إسرائيل، فهم يؤمنون بضرورة تطبيق الشريعة اليهودية (الهلاخاه) فى الحكم، ويعارضون مشاركة النساء فى السياسة، ويشددون على الفصل بين الجنسين فى الحياة العامة، كما يرفضون الحداثة الثقافية مثل الغناء أو الفن. والأهم أن الحريديم تاريخيًا كانوا معادين للصهيونية باعتبارها «هرطقة دينية»، ويعتبرون أن إقامة دولة يهودية قبل قدوم المسيح، خروج عن العقيدة، وبالتالي، فإن اندماجهم المتزايد فى البنية السكانية والسياسية لإسرائيل لا يعنى بالضرورة دعمًا لمشروعها الصهيوني، بل ربما يمثل عامل تفكيك داخلي. من أبرز التحديات التى يثيرها النمو السكانى الحريدي، الخلل العميق فى سوق العمل والتعليم، وتشير الدراسات إلى أن معدلات خصوبة المرأة الحريدية تصل إلى 6.6 طفل لكل أسرة، لكن هؤلاء الأطفال يتلقون تعليمًا تقليديًا فى مدارس يهودية دينية (يشيفوت) تتجاهل المواد الأساسية كالرياضيات والعلوم واللغة الإنجليزية. وبالتالي، ينشأ جيل كامل غير مؤهل لدخول سوق عمل عالمى يعتمد على التكنولوجيا والابتكار، وفى الواقع، معدلات مشاركة الرجال الحريديم فى القوى العاملة هى الأدنى فى إسرائيل، إذ يكرسون معظم وقتهم لدراسة النصوص الدينية، بينما تتحمل النساء عبء إعالة الأسرة من خلال وظائف منخفضة الدخل. والنتيجة المباشرة لذلك، ارتفاع معدلات الفقر بين العائلات الحريدية، وانخفاض مستويات المعيشة بشكل عام، وبدلًا من الاعتماد على الإنتاجية، يعتمد هذا القطاع بشكل أساسى على الإعانات الحكومية والتحويلات الاجتماعية. ويهدد استمرار هذا النمط، مستقبل الاقتصاد الإسرائيلي، خصوصًا أن نسبة كبيرة من الأطفال الذين سيصبحون القوة العاملة بعد عقود، سيكونون من خلفية حريدية تفتقر للتعليم الحديث. ومنذ إعلان تأسيس دولة الاحتلال إسرائيل عام 1948، منح الحريديم إعفاءً شبه كامل من الخدمة العسكرية، وهو ما عُرف بصفقة «توراته أمانته»، وخلق هذا الاستثناء شعورًا عميقًا باللاعدالة بين بقية الإسرائيليين الذين يتحملون أعباء التجنيد الإجباري. ورغم أن المحكمة العليا ألغت مؤخرًا الإعفاء الجماعي، إلا أن مقاومة الحريديم وقياداتهم الدينية لا تزال قوية، والنتيجة أن آلاف الشبان الحريديم لا يخدمون فى الجيش ولا يشاركون فى الخدمة الوطنية. وهذا يمثل تهديدًا مباشرًا لمفهوم «جيش الشعب» الذى اعتمدت عليه إسرائيل طويلًا كركيزة للتماسك الاجتماعى والأمني، فمع تضخم وزن الحريديم، سيتقلص حجم الفئات المستعدة للتجنيد، وهو ما يضعف القدرة الدفاعية على المدى البعيد. ومنح النظام الانتخابى الإسرائيلي، القائم على التمثيل النسبي، الحريديم، نفوذًا سياسيًا متعاظمًا، فأحزابهم الدينية تمثل اليوم أكثر من 15% من مقاعد الكنيست، وهى شريك أساسى فى ائتلافات الحكم، خاصة مع حزب الليكود بقيادة بنيامين نتنياهو. ويترجم هذا النفوذ عمليًا فى صورة «صناديق ائتلافية» أو مخصصات مالية هائلة تُوَجَّه لخدمة مؤسسات الحريديم على حساب القطاعات العامة مثل التعليم والصحة والبنية التحتية، وقد ارتفعت هذه الأموال من 19% إلى 53% بين 2015 و2024، وبذلك، تتكرس ظاهرة «الدولة داخل الدولة»، حيث يُعاد تشكيل السياسات العامة وفق مصالح جماعة بعينها، بدلًا من خدمة المجتمع الإسرائيلى ككل. وتزامن هذا التحول الديموجرافى مع أزمة اقتصادية حادة، فالحرب على غزة منذ أكتوبر 2023، ثم التوسع المحتمل فى جبهة لبنان، أديا إلى دخول الاقتصاد الإسرائيلى فى أسوأ ركود منذ عقود، حيث يتوقع أن يكون التراجع من بين الأسوأ فى دول منظمة التعاون الاقتصادي. ومن منظور تاريخي، يعانى الاقتصاد الإسرائيلى من تراجع الإنتاجية مقارنة بدول مجموعة السبع، وانخفاض مستوى المعيشة للفرد، صحيح أن قطاع التكنولوجيا الفائقة (الهايتك) يمثل واجهة متقدمة لإسرائيل، لكنه لا يشغل أكثر من 6% من القوة العاملة، وبالتالى لا يستطيع وحده حمل الاقتصاد فى ظل «التديين الحريدي» المتصاعدة. وفى مايو 2024، أصدر أكثر من 100 اقتصادى بارز، بيانًا يحذرون فيه من المسار الديموجرافى والاقتصادى الحالي، مؤكدين أنه يهدد وجود إسرائيل ذاته، أشاروا بوضوح إلى أن استمرار الوضع سيدفع النُخب العلمية والتكنولوجية من أطباء ومهندسين وعلماء إلى الهجرة. وتؤكد الأرقام ذلك: فقد ارتفعت نسبة المهاجرين الإسرائيليين إلى الخارج مقارنة بالعائدين، من 1.25 فى 2011 إلى 1.78 فى 2023، وإذا استمرت هذه النزعة، فإن إسرائيل ستفقد قاعدتها الإنتاجية الماهرة، ما يعنى تراجعًا حتميًا فى قدرتها على الإبداع التكنولوجي، وبالتالى فى قوتها العسكرية التى تعتمد بدرجة كبيرة على هذه المعرفة. وظاهرة «التديين الحريدي» ليست مجرد تحول ديموجرافى طبيعي، بل هى تحدٍ وجودى يهدد المشروع الصهيونى من الداخل، فإسرائيل قد تجد نفسها بعد 40 عامًا أمام مجتمع منقسم: أغلبية فقيرة ومتشددة دينيًا، أقلية علمانية مثقفة لكنها مُهاجرة أو مُهَمَّشة، واقتصاد ضعيف غير قادر على تمويل جيش قوى أو مؤسسات حديثة. فى ظل هذا التصدع، قد تتحول إسرائيل إلى دولة ضعيفة، أقل قدرة على الصمود أمام الضغوط الخارجية، وأكثر عُرضة للتفكك الداخلي، إنها المفارقة الكبرى: المشروع الذى تأسس ليكون زعمًا «دولة يهودية عصرية»، قد ينهار بفعل تحولات ديموجرافية يقودها يهوده أنفسهم.