نظرات زوجتى تجعلنى أتراجع غالبا، خوفا من رد فعل غير مأمون العواقب، والتراجع يحتاج لمبررات قوية، تستطيع أن تُجهض حججا سابقة، استغرقت وقتا فى ابتكارها! «كروت» التباعد! الخميس: بدون مقدمات منطقية، يُتقن الماضى قدرة إثبات حضوره عبر تفاصيل صغيرة. لا أفهم مثلا كيف تجاوز هذا «الكارت الشخصي» حواجز الزمن، ليظهر فجأة أمامى دون أن أعبث بمقتنياتى القديمة. يقترب عمره من ثلاثين سنة، ظهرت آثارها على ملامحى لكنه يبدو محتفظا بشبابه! أتجاهل زهوه السخيف وأستحضر ما صاحب ملابسات طباعته من بهجة، صاحبتْ حصولى أخيرا على شهادة معتمدة بأننى صحفي، تلك المهنة التى ضيّعتُ أعواما من عمرى حتى أنتمى لها بشكلٍ رسمي. فى ذلك الزمن البعيد، كان ل«الكروت» رونقها، ربما لأنها تقدّم للآخرين صورة ذهنية عنا، نرغب فى تصديرها فى سنٍ مُبكرة، فما بالنا بتلك الكلمة المبهرة: «صحفي»؟ التى ظننتُ ذات زمن أننى لن أحصل عليها، بسبب عقبات امتدت ستة أعوام بعد تخرّجي، رغم أننى بدأت العمل بالصحافة منذ سنوات الجامعة. فى أمسية أدبية قبل أسابيع، قدمتُ «كارتًا» طبعتُه حديثا لزميلة صحفية أكثر شبابا. نتابع كتابات بعضنا على فيس بوك منذ سنوات دون لقاء مباشر. مددتُ يدى بالبطاقة بينما تُخرج هى هاتفها لتُسجل رقمي، تساءلتْ متعجبة: «هو لسه فى حد بيستعمل كروت؟». أجبتُها بابتسامة أننى «دقّة قديمة»، كما أن هذا المستطيل الورقى البسيط يحمل معلومات أخرى مثل البريد الإلكترونى ورابط «فيس بوك» و«إنستجرام». احترمتْ تبريرى ولم تُعقب بأن خوارزميات الهواتف الذكية تحقق الهدف نفسه بشكل أكثر تلقائية وبساطة. غادرتُ الأمسية لكن عبارتها المندهشة ظلت حاضرة فى ذهني. تذكرتُ عشرات «الكروت» لمبدعين ومسئولين كبار تقبع فى جيبي، وتنتقل بين ملابسى بتلقائية حتى تتآكل «الكروت لا الملابس بالتأكيد»، دون أن تحظى بقليل من اهتمامي، ومع الوقت يضيع تأثير لقاء حميمى شهد تبادل البطاقات مع وعود بتواصل قريب. ربما لو تم تسجيل الأرقام مباشرة على أجهزة المحمول لصار التواصل أمرا واقعا. أتخذ قرارا بتغيير أسلوبى فى اللقاءات القادمة، لأن الزمن يتغير.. وكذلك قواعده، غير أن القرار يظل مُجمدا، فقبل كل مناسبة أتحسس جيبي، لأتأكد من وجود «كروت» كافية، يُسهم توزيعها فى تكريس البعد، بدلا من تفعيل العلاقات الإنسانية! رحلة مع وقف التنفيذ الجمعة: للمرة الرابعة خلال شهرين، أعجز عن تحقيق إحدى رغباتى البسيطة. ألغيتُ سفرى إلى الإسكندرية مضطرا، وصرتُ مقتنعا بأن هناك قوى خفية تُعرقل كل سفرياتي، وحتى ما يُكتب لها النجاح تكتمل بعد معاناة. ربما يكون أحد الأسباب، تلك النظرة المتشككة من زوجتي، كلما بدأتُ إطلاق مقدماتى تمهيدا لرحلة داخلية، أما الرحلات الخارجية النادرة فلا تثير هواجسها، لأنها تعلم أننى لن أخوضها إلا بدعوة مدفوعة ومُسببة. نظرات زوجتى تجعلنى أتراجع غالبا خوفا من رد فعل غير مأمون العواقب، والتراجع يحتاج لمبررات قوية، تستطيع أن تُجهض حججا سابقة، استغرقت وقتا فى ابتكارها، ومجهودا شاقا فى ضبط إيقاع منطقيتها، كى أقنعها أن الرحلة ضرورية لدوافع مهنية. من يريد العبث لا ينبغى أن يبيع «المية فى حارة السقّايين»، وكلانا نعمل فى مجال واحد مما يجعل التلاعب مقامرة. لكن ينبغى أن أعترف أنها أحيانا ترحب بسفري، لدرجة تصيبنى بالقلق، وأشعر أنها تدفعنى لفخ مُحكم.. هنا يُصبح الحذر فريضة حاضرة، والبقاء فى البيت أكثر أمانا. عموما لم يكن إلغاء سفرى الأخير بسببها، فالمتهم هذه المرة صاحب دار نشر، اختفى فجأة بعد أن وجه الدعوة لي.. هى تعرفه جيدا، لهذا يُمكن أن يظل التحريض احتمالا مطروحا! خفيف الروح الأحد: حبى للإسكندرية قديم، كتبتُ عنه أكثر من مرة، وأحلتُ دوافعه لذكريات الصبا، فهى مدينة لم ترتبط مثلا بقصص حب قديمة تقودنى للحنين إليها. اليوم فقط اكتشفتُ سببا لم أنتبه له من قبل، عندما صادفتْنى أغنية قفزت من الماضى إلى منشور على «فيس بوك»، فرقة من الهواة تغنى «خفيف الروح بيتعاجب برمش العين والحاجب». يا الله، لقد ظلتْ هذه الأغنية قادرة على إثارة شجني، منذ سمعتها فى فيلم «سيد درويش» بصوت إسماعيل شبانة. عند زيارتى الأخيرة قبل نحو عام، حرصتُ على زيارة منزل الشيخ سيد بكوم الدكة، للمرة الأولى فى تاريخ علاقتى بالإسكندرية، وقتها تعجبتُ لأن هذا اللقاء بالحى العريق تأخّر كثيرا، مع أننى زرتُ منزله فى القاهرة منذ أعوام غير قابلة للحصر، حتى أننى نسيتُ موقعه حاليا بفعل تآكل الذاكرة، وأعتقد أنه كان يقع بحى «السبتية». وقت استماعى للأغنية فى صغري، لم أستوعب معنى مفردات كثيرة، نظرا لجهلى بقواعد العشق، وما يرتبط بها من خصام وهجر وحرمان. غالبا كان اللحن المشحون بعاطفة مشوبة بالحذر هو ما يجذبني. قبلها كنت قد عرفت موسيقار الشعب عبر أغنيات أكثر بساطة، مثل «طلعت يا محلى نورها»، و«الحلوة دى قامت تعجن فى الفجرية». نغماتها المصحوبة بالبهجة أكثر ملاءمة لمرحلة الطفولة، لكن يبدو أننى أملك روحا تميل للكآبة، على الأقل فيما يرتبط بالغناء، لأننى عادة من عشاق البهجة. قد يغزونى الحزن أحيانا أو أطلب اللجوء إليه اضطراريا، إذا شعرتُ أن جرعة السعادة فاقت قدرتى على الاحتمال! بينما أتمرد عليه فى معظم الأحيان. «مراية» الحب.. ومذاهب العشق سمعتُ الأغنية بشغف، ومن جديد استشعرت خوارزميات «فيس بوك» شغفي، وبعد ساعتين انسابت أغنية «أنا هويت وانتهيت»، ثم منشور يتحدث عن «جليلة» التى خطفتْ قلب سيد درويش، وغنّى من أجلها هذه الأغنية. صاحب المنشور استفاض فى الربط بين الكلمات وبطلة قصة الحب، مع بعض سخرية من شكلها «أصبحنا نسميها تنمّرا»، لأنه رأى - وله حقٌ فى ذلك- أن ملامحها لا يُمكن أن تلفت انتباه إنسان عادي، فما بالنا بفنان مرهف الحس، يستحق أن تقتنص أحاسيسه امرأة بمستوى سحر هند رستم، فهى فقط القادرة على شغله «بسهم اللحظ والنني». مع أن صورة «جليلة» تدعم وجهة نظر كاتب المنشور، إلا أنه تناسى أن المغنى لم يكتب الكلمات، التى خرجت غالبا من أجل عيون امرأة أخرى شغلتْ قلب مؤلفها، وربما يكون الدافع مجرد كسب حفنة جنيهات من بيع الأغنية! الحديث عن الجمال يقودنى إلى مقاييسه المتباينة، ولولا اختلاف الأذواق لبارتْ الحبيبات! عندما نقرأ قصائد الغزل أو نسمع أغنيات الغرام، يستحضر كل منا مواصفات شكلية لحبيبة واقعية، أو أنثى خيالية بمقاييس مثالية، دون أن ندرك أن من راودت مشاعر العاشق المبدع ربما تكون امرأة عادية جدا، لكنها استطاعت أن تبهر صاحبها. هل يمكن أن نجزم أن ليلى كانت باهرة الجمال لدرجة أصابت قيسا بالجنون؟! أعتقد أن قصص الحب المعاصرة تجعلنا نتعجب من اختيارات البعض، لأن الصور أصبحت فاضحة للتفاصيل، وليراجع كل منكم قصص حبه عبر سنوات حياته، وسيكتشف أن هناك قصة على الأقل ظلت مثار دهشة المحيطين به «أو بها.. لكى لا أتّهم بالذكورية»، المحيطون بالعاشق الولهان أو العاشقة الحالمة بعيدون عن دوائر نفوذ المشاعر، لذلك قد يرون صورة الحبيب«ة» بوضوح أكبر، من هنا تحديدا خرج المثل الشعبى بالغ الدلالة «مراية الحب عامية»! بالتأكيد، للناس فيما يعشقون مذاهب.