حين يستبدل صوت المدفع بصوت الصمت، فإن خلف ذلك صمتًا آخر أكثر قسوة، صمت الجوع. حين يصبح الخبز سلاحًا، فإننا لسنا أمام حرب، بل أمام عار. فلم يعد الهدف إسكات الصوت الفلسطينى، بل كسر النفس الإنسانية بالكامل. إن الحرب على غزة ليست مجرد قصف بل منظومة شاملة، يستخدم فيها الخبز والماء كوسائل للابتزاز السياسى والعسكرى. لم يعد الصراع على الأرض أو السيادة، بل صراع على وجود الإنسان ذاته. إن التجويع ليس سلاحًا جديدًا لكنه الأكثر خسة وفتكًا، لا يحدث دويًا، لكنه يفتت الكرامة، ويكسر الروح. حين يمنع الغذاء وتغلق المعابر، وتحاصر المساعدات، فإن المعركة تتحول من مواجهة إلى خنق بطيء، إسرائيل تدرك ذلك جيدًا، وتستخدمه بوعى كامل فى إطار خطة تهدف إلى استنزاف روح المقاومة من داخلها، بتحويل كل بيت فى غزة إلى ساحة ألم، وكل أم إلى شاهدة على معاناة أطفالها. غزة ليست فقط ضحية عدوان، بل ضحية مشروع يعمل على محو الذاكرة الوطنية من خلال خلق واقع يومى لا يطاق، يجعل الأهالى يهربون من فكرة التحرير إلى فكرة البقاء.. فالتجويع لم يكن سلوكًا عرضيًا، بل سياسة ممنهجة، حيث كشفت وثيقة مسربة تعود لعام 2008، عن خطة إسرائيلية لحساب السعرات الحرارية التى يجب السماح بها لغزة حتى لا يموت الناس، لكنهم لا يعيشون براحة ، هذا التفكير المؤسسى بالتجويع يكشف عمق الجريمة واستمرارها لسنوات. الخطير فى سلاح التجويع أنه لا يدين صاحبه فقط، بل يكشف تخاذل من حوله، الدول التى تراقب بصمت، والمنظمات الدولية التى تكتفى بالإدانات، والعرب الذين نسى بعضهم أن الكرامة لا تتجزأ. أين العالم؟! سؤال تطرحه كل أم تحمل رضيعها إلى قبره؟.. أما العرب فصمت بعضهم صار أكثر إيلامًا من القنابل، نحن لا نشاهد مأساة. نحن نشارك فى صناعتها بصمتنا على معاناة غزة التى تجاوزت حدود الحصار. غزة لا تتوسل، ولن تموت جوعًا، والجوع لن يسقط الراية، لكنه يفضحنا جميعًا، غزة تصرخ فى وجه عالم خائف من صوتها، لأنها وحدها تعرى الجميع.. إن صمود غزة هو امتحان لنا لا لها، فإن فشلنا، فلن نكون فقط شهودًا على جريمة، بل شركاء فيها.. وسيكتب التاريخ أننا تركنا الأطفال يموتون جوعاً ، ولم نحرك ساكنا.