في اعتراف نادر، نشر الباحث الأمريكي جيمس رون، على مدونته الشخصية رسالة مفتوحة لأولاده بعنوان: «إلى أطفالي: هذا ليس عاركم»، يُعري من خلالها مذابح الاحتلال في غزة، على مدار الحرب التي أعقبت السابع من أكتوبر، ويكشف عن شعوره العميق بالخجل من الماضي، وبالمسؤولية تجاه المستقبل. تضمنت رسالة رون الذي تطوع في شبابه ضمن صفوف قوات الاحتلال، التأكيد على أن أفعال قوات الاحتلال، تندرج ضمن نطاق جرائم الحرب، كما وثق المؤرخ الإسرائيلي لي موردخاي بتفصيل مؤلم، وليس موردخاي وحده: منظمات حقوقية إسرائيلية مثل بتسيلم وأطباء من أجل حقوق الإنسان – إسرائيل، وصحفيون في هآرتس وموقع «+972» العبري، قدموا توثيقًا لا لبس فيه لحجم الكارثة، بحسب رون. الرسالة التي لاقت تفاعلاً واسعًا بين الأوساط الأكاديمية والحقوقية، لم تكن مُجرد خطاب عاطفي من أب إلى أبنائه، بل وثيقة أخلاقية وإنسانية هزّت ثوابت الرواية الرسمية حول ما يُسمى ب«حق الدفاع عن النفس»، كما سلطت الضوء على الكلفة الحقيقية للحرب من وجهة نظر من كان جزءًا منها يومًا ما. اقرأ أيضًا| سقوط في الوحل.. «بي بي سي» تقمع صحفييها لإجبارهم على تلميع صورة إسرائيل ■ منظومة تُنتج الظلم وتُغذّي العنف وتُعمّق الاحتلال «أنا جندي سابق في الجيش الإسرائيلي، خدمت هناك بملء إرادتي، وأعتقد أنني كنت أؤمن وقتها بأنني أدافع عن (وطني)، لكن الآن، بعد عقود، أدرك أنني شاركت في منظومة أكبر منّي، منظومة تُنتج الظلم وتُغذّي العنف وتُعمّق الاحتلال».. بهذه الكلمات، افتتح رون رسالته، محاولًا أن يشرح لأبنائه — الذين كبروا في الولاياتالمتحدة بعيدًا عن ساحة الحرب — لماذا قرر أن يوقّع على رسالة مفتوحة مناهضة ل الحرب في غزة، ولماذا اختار أن يرفع صوته في وقت يُفضل فيه كثيرون الصمت. وخاطب أطفاله: «أعلم أنكم ستسمعون من يقول إن أباكم يخون بلاده أو دينه أو تراثه.. لكنني أقول لكم: إن قول الحقيقة ليس خيانة، وإن الوقوف إلى جانب الضحايا لا يعني التخلي عن الذات». وفيما يشبه الرغبة في تبرئة ساحة أولاده، قال رون «لا أريد أن تحمِلوا عاري، هذا ليس عاركم، أنتم لم تُطلقوا النار، ولم تباركوا القتل، ولم تُصفقوا للدمار، لقد اخترت أنا أن أكون جزءًا من هذا، أما أنتم، فلكم أن تختاروا مسارًا مختلفًا، أن تكونوا على الجانب الصحيح من التاريخ». في هذا السياق، أعرب جيمس رون عن قلقه من أن يدفع أطفاله ثمن مواقفه، سواء بسبب البيئة الاجتماعية التي يعيشون فيها، أو بسبب التيارات السياسية والإعلامية التي لا تتسامح مع الأصوات المعارضة داخل المجتمع اليهودي الأمريكي، لكنه في المقابل، شجّعهم على التمسك بالحقيقة مهما كان الثمن:«العار الحقيقي هو الصمت.. هو أن ترى الدخان ولا تتكلم.. أن تسمع صرخات الأطفال تحت الأنقاض، وتقول لنفسك: هذا ليس من شأني». ■ شاهد على جرائم الاحتلال من داخل غزة جيمس رون، ليس أكاديميًا عابرًا في عالم السياسة، بل هو باحث مخضرم عمل سابقًا مع منظمات بارزة، وشارك في تحقيقات دولية حول جرائم الحرب، وتجربته في غزة جعلته يشهد مُباشرة على ممارسات الاحتلال من الداخل، لا من خلف الشاشات أو عبر التقارير، واستعاد في رسالته، لحظات قاسية من تلك الأيام، وتحدث عن المرات التي صمت فيها، وندم على صمته: «لم أكن قاتلاً، لكنني كنت هناك، أرى كل شيء، وأسكت، أساعد أحيانًا عن غير قصد، كنت أرتدي الزي، وأمثّل آلة أكبر مني، واليوم، لم يعد بوسعي أن أواصل هذا الصمت». يعاود رون مخاطبة ابنائه وكأنه يوجه إليهم وصية للمستقبل: «كونوا شهودًا، لا تكونوا شهود زور، احكوا الحقيقة لأصدقائكم، لمدرّسيكم، لجيرانكم، لا تجعلوا الصمت ميراثكم»، ويضيف: «أعرف أنكم تحبون أصدقاءكم من كل الديانات والخلفيات، أعرف أنكم تشعرون بالغضب حين ترون صور الأطفال في غزة، وأنكم تتساءلون: لماذا؟ الجواب ليس بسيطًا، لكنه يبدأ من هنا، من أن تقولوا: هذا لا يجب أن يستمر». وتعرض كاتب الرسالة فور نشرها إلى هجوم عنيف، من داخل المجتمع الأمريكي حيث قال إن بعضهم قطع علاقته به، وآخرون وصفوه بالخيانة والعار، ورغم ذلك، تجاهل هذا الهجوم وجدد تأكيده لأبنائه: «الخيانة الحقيقية هي أن تخون ضميرك»، وأنه لن يتراجع عن موقفه، لأنه ليس موقفًا سياسيًا بقدر ما هو موقف إنساني. وتابع: «أعرف جيدًا معنى أن يُذبح الأبرياء بسبب هويتهم، لذلك، لا أستطيع أن أبارك ما يحدث للفلسطينيين، لا أستطيع أن أسميه دفاعًا عن النفس حين تُقصف مدارس الأونروا، وتُدفن العائلات تحت الركام». اقرأ أيضًا| بالأدلة والمواقف| توماس فريدمان يكشف كيف ابتلع ترامب طُعم نتنياهو في غزة ■ التناقض في المواقف يُفقد الغرب مصداقيته تزامنت رسالة رون، مع زيادة حالة الغضب العالمي، تجاه استمرار جرائم الحرب التي يرتكبها الاحتلال تجاه سكان القطاع، واستخدامه الجوع سلاح للإبادة الجماعية، وما يزيد من أهمية الرسالة أنها لا تأتي من جهة معادية لإسرائيل، بل من رجل خدم ضمن قوات الاحتلال ويعرف أدواته، ويفهم منطقه. وفي نهاية رسالته كتب لأطفاله:«لا أطلب منكم أن تحملوا موقفي، أو أن تكونوا نسخًا مني، أطلب فقط أن تنظروا إلى كل إنسان كإنسان، وأن تميزوا بين الظالم والمظلوم، بصرف النظر عن العرق أو الدين أو اللغة»، ويضيف: «إنني أكتب إليكم لأنني لا أريد أن تنشأوا في ظل كذبة، ولا أن يكبر ضميركم مشوّهًا، لقد رأيت الكذب يُدمّر الناس من الداخل، ويحوّلهم إلى آلات بلا رحمة، لا تكونوا مثلهم». وفي سياق موازٍ، نشر رون، مقالًا على مدونته قبيل توجيه هذه الرسالة، شدد خلاله على أن قضية فلسطين باتت معيارًا حقيقيًا لاختبار مدى التزام الغرب بقيمه الليبرالية، فالمجتمعات التي طالما تغنت بحرية الرأي والتعددية والعدالة، تبدو اليوم عاجزة أو غير راغبة في تطبيق هذه المبادئ إذا تعلق الأمر بإسرائيل. وأكد أن هذا التناقض في المواقف يُفقد الغرب مصداقيته، لا فقط في أعين العرب، بل في نظر قطاع واسع من المثقفين الغربيين أنفسهم، خاصة مع تصاعد الأصوات المنتقدة للدعم الغربي غير المشروط لإسرائيل، رغم مشاهد الموت والدمار في غزة.