فى خضم حرب إبادة حقيقية يرتكبها الاحتلال الإسرائيلى ضد قطاع غزة منذ أشهر، ظهرت مفارقة تُصيب الضمير العربى فى مقتل: مظاهرات فى تل أبيب ضد... مصر!!! نعم، ليس ضد آلة القتل الإسرائيلية، ولا ضد جرافات الاحتلال التى دفنت آلاف المدنيين، بل ضد الدولة الوحيدة التى أبقت شريان الحياة مفتوحًا، وسعت رغم كل التعقيدات السياسية والأمنية إلى إدارة ملف معبر رفح بكل ما أمكن من توازن بين السيادة والمسؤولية. من يقود هذه التظاهرات؟ جماعة الإخوان، لكن هذه المرة، لا كحركة دينية، ولا حتى كتنظيم سياسى بل كجماعة صهيونية الهوى والهوية، تجاورت هتافات السباب البذيئة لمصر فى مظاهرات العار بموافقة أمنية من حكومة نتنياهو وتحت حراستها وكان أبناء الجماعة وأحفاد البنا وسيد قطب جنبا إلى جنب مع أبناء صهيون إخوة كالبنيان المرصوص تحت العلم الإسرائيلي، وتوحد لأول مرة الهلال مع النجمة السداسية والقلنسوة اليهودية مع اللحية الإخوانية الكريهة، ما هذا العبث والقبح والانحطاط؟! غسل سمعة الاحتلال لعقود، كانت الجماعة تسوّق نفسها بأنها جماعة دعوية سياسية الوعى حتى أثبتت بالقتل والاغتيالات والتخريب الذى مارسته أنها ليست فقط جماعة متطرفة، بل تجاوزت هذا التوصيف إلى جماعة إرهابية وحفنة من القتلة، لا مجال معها لدعوة أو للسياسة، مظاهرات تل أبيب كشفت وأخرجت للعالم الوجه الحقيقي: جماعة قررت أن تقف على ركام جثث غزة، لتُدين مصر لا إسرائيل، أن تهتف من قلب الدولة التى تذبح الفلسطينيين، لا ضدها بل معها.. أى انفصام هذا؟ أى خيانة فكرية وأخلاقية تُرتكب حين يتم تصدير صورة مزيفة للعالم، وكأن المعضلة فى إغلاق المعبر لا فى طائرات الF-16؟ وكأن القاهرة هى من قصفت لا تل أبيب؟ لم يكن عبثًا أن تُغطى الصحافة الإسرائيلية هذه التظاهرات بكثافة: «ناشطون فلسطينيون فى تل أبيب يتظاهرون ضد مصر»، هكذا عنونت القنوات العبرية، ليس باعتبارهم أعداءً لإسرائيل، بل كأداة ضغط دعائية ضد القاهرة وقيادتها ومواقفها. الصحف الإسرائيلية رحّبت بالمشهد، وأبرزت «انقسام العرب» و»الصراع المصرى الفلسطيني»، بينما تعمّدت تجاهل الجريمة الحقيقية على الأرض: 13000 طفل شهيد، آلاف العائلات المدمرة، أبيدت غزة بأكملها، لكن الصورة التى يراد تصديرها أن «مصر مسؤولة عن المأساة»! تظاهرة الإخوان أداة دعائية تساعد فى غسل صورة الاحتلال، وتلويث صورة القاهرة التى وقفت ضد مخطط التهجير منذ البداية وما يُثير السخرية المأساوية، أن الإعلام الإسرائيلى نفسه الذى دأب على شيطنة الفلسطينيين لسنوات، وجد فى هذه التظاهرة مادة لتجميل صورته أمام الرأى العام الغربي. ما حدث فى تل أبيب لم يكن مجرد مظاهرة منعزلة، بل كان هدية ثمينة قدّمها الإخوان على طبق من ذهب للإعلام الإسرائيلى - والحكومة المأزومة دوليا - الذى استغل المشهد ببراعة ليتحول من موقع الدفاع عن النفس إلى موقع الهجوم على الفلسطينيين أنفسهم القنوات العبرية لم تُضيّع لحظة فى بث المشاهد وتضخيمها، مع تعليقات تؤكد أن «اللوم يأتى من الداخل العربي»، وأن «الاحتلال ليس وحده المسؤول» بل أكثر من ذلك، حرص الإعلام الإسرائيلى على إبراز لقطات الهجوم على القاهرة باعتبارها الشقيق المُقصِّر، متجاهلًا عمدًا المجازر اليومية التى ترتكبها قواته فى غزة فبدلًا من صور الأطفال الشهداء، جاءت صور لرايات الإخوان تُرفرف فى شوارع تل أبيب، وهتافات تتهم مصر، لا إسرائيل هذا الانقلاب فى الصورة الإعلامية مثّل نصرًا دعائيًا ناعمًا لم يكن الاحتلال والحكومة التى نبذها العالم ليحققه بمفرده. العالم يدين إسرائيل.. والإخوان يهاجمون مصر فى سبتمبر المقبل، تستعد كل من فرنسا، وكندا، وإسبانيا والبرتغال للاعتراف بدولة فلسطينية وفى واشنطن، يطالب السيناتور بيرنى ساندرز بوقف الدعم العسكرى عن إسرائيل، ويصف ما يحدث بأنه «حرب غير أخلاقية يجب أن تنتهى فورًا». فماذا يفعل الإخوان؟ يخرجون فى قلب تل أبيب، ليحمّلوا مصر المسؤولية، ويتركوا السفاح حرًا طليقًا! ■ أى تناقض هذا؟ أى قلب للحقيقة والحقائق؟ ■ أى سقوط أخلاقى يبيح لجماعة تدّعى الانتماء للقضية أن تبرئ الجلاد وتدين المدافع الوحيد؟ ■ هل كان كل هذا الانتماء للقضية مجرد ورقة ضغط سياسية؟ ■ هل سقط القناع، ولم يبقَ سوى «الإخوانى الذى يهتف بالعبرية»؟ ■ لم تعد المسألة مجرد اختلاف فى المواقف، بل تحوّلت إلى خيانة مركبة متعددة الطبقات: - خيانة للقضية، حين يتحول النضال إلى مشهد استعراضى فى تل أبيب. - خيانة للدين، حين تُختزل المعاناة فى معبر وتُنسى المجازر. - خيانة للذات، حين يرتدى صاحب القضية ثوب القاتل ليُدين الشقيق. - فى النهاية، لم تكن تلك المظاهرات إلا رصاصة فى صدر الوعى الفلسطينى والعربي. رصاصة لم تُطلقها إسرائيل هذه المرة، بل أطلقها «الفرع الصهيونى من الإخوان المسلمين». المعركة لم تعد بين فلسطين وإسرائيل فقط، بل بين الحقيقة والزيف، بين من يدافع عن الدم، ومن يتاجر به، بين من يحارب القتل، ومن يحوّله إلى وسيلة ضغط سياسى ضد وطنه ولذلك يجب أن نسمّى الأمور بأسمائها: ما حدث فى تل أبيب هو مظاهرة خيانة، وجماعة الإخوان التى قادتها لم تعد عربية، ولا إسلامية، بل صهيونية المشروع والتكتيك. ■ لكن يبقى السؤال الأخطر: لماذا يفعلون ذلك الآن؟ ■ لماذا اختارت جماعة الإخوان هذا التوقيت تحديدًا، لتظهر فى تل أبيب ضد مصر، لا ضد الاحتلال؟ - الإجابة ليست بريئة، بل تتجاوز اللحظة إلى ما هو أعمق: إنهم يتحركون كلما شعرت إسرائيل بالخطر السياسى الحقيقي. فالمرحلة الراهنة لم تعد كسابقاتها؛ الحديث يتسارع عن وقف الحرب، ترتيبات ما بعد المعركة، مرحلة انتقالية، وربما – ولأول مرة بجدية – نزع سلاح إسرائيل جزئيًا فى غزة، أو على الأقل إخضاعه لرقابة دولية. فى هذا السياق، تصبح الضغوط على مصر ضرورة استراتيجية لتل أبيب، فهى الطرف القادر على تثبيت التهدئة أو تفكيكها، واللاعب الأساسى فى ضبط حدود غزة، والمفتاح الحقيقى لأى حل سياسى مستقبلي، وهنا يظهر الإخوان، كالعادة، فى دور المُنفّذ الخلفى لما لا تستطيع إسرائيل فعله علنًا: التشويش على القاهرة، تشويه دورها، ودفع الأنظار بعيدًا عن مشروع الاحتلال. إنهم لا يتحركون دفاعًا عن غزة، بل اعتراضًا على أى صيغة تسحب السلاح من يد الفوضى وتضعه فى يد الدولة فالإخوان يدركون أن أى حل سياسى ينزع السلاح، يُنهى الفوضى، ويعيد الشرعية إلى الدولة الفلسطينية، هو نقيضٌ تام لوجودهم هم لا يريدون «تحرير فلسطين»، بل يريدون أن تبقى القضية مشتعلة إلى الأبد، شرط أن يكونوا هم داخلها، لا على هامشها، يستحوذون على السلطة ويجمعون الأموال، ببساطة شديدة هم مجرد خونة وأداة جاهزة للاستخدام والتوظيف بأجر هكذا يؤكد تاريخهم وحاضرهم.