فى زمن تُختبر فيه الرحمة، وتنهك فيه القلوب بالفقر والعجز والمرض، لا تزال هناك وجوه مضيئة تشرق بالأمل لليائسين، وقلوب تتسع حين تضيق دروب الحياة، وأرواح توزّع الدفء فى أشد أوجه السقيع، وبيوت تنسج حضننا لمن أنهكتهم قساوة الأرصفة.. هؤلاء ليسوا مجرد أهل للعطاء، بل بناة حياة ينشرون الخبز والحب على حد سواء دون مقابل.. فبرغم التحديات الاقتصادية والاجتماعية، لا تزال مصر تحتضن نماذج مُلهمة لأشخاص اختاروا طريق العطاء دون انتظار مقابل، رجالا ونساء، شبابا وكبارا، قرروا أن يكونوا جزءًا من الحل، وأن ينشروا النور فى حياة غيرهم، بعيدًا عن الأضواء أو المصالح.. «الأخبار» فى ملفها تفتح أبواب الحكايات التى لا تُروى كثيرًا، حكايات من قرروا أن يرمموا ما هدمه الزمن، وأن يجعلوا من إنسانيتهم سلاحًا فى وجه القسوة. اقرأ أيضًا | وزيرة التنمية المحلية تتابع مع محافظ القليوبية مشروعات «حياة كريمة» لم تكن تعرف أن خطواتها وسط الزحام ستقودها يوما لرسالة عظيمة تنقذ بها إنسانا، ولم تخطط أنها ستكون ملاذا لأرواح منهكة من قسوة الشوارع، لم تدرس علم النفس، ولا تعرف كيف يعالج الأطباء، لكنها توقن أن الإنقاذ لا يحتاج إلى شهادات، بل لضمير يقظ ويد ممدودة بالرحمة. تحولت صفحة سمر نديم على فيسبوك إلى عنوان للنجدة، وأصبح بيتها مأوى للنساء المشردات اللواتى ينتظرن الموت على الأرصفة، كان قلبها بوصلتها الوحيدة، لا تتبع تمويلًا ولا تنتظر دعمًا رسميًّا، لكن خطواتها كانت واثقة نحو الخير واختارت أن تواجه الشوارع، وأن تُنقذ السيدات المجهولات اللاتى تُركن للبرد والجوع والتهميش. كانت أولى الحالات التى قامت سمر بإنقاذها عجوزا ملقاة على الرصيف، تئنّ أسفل بطانية مهترئة، تنظر للمارة بعين مرتجفة تجمع بين الخوف والحزن والجوع والحسرة، أدركت سمر حينها أن رحلتها قد بدأت وأن هناك الكثيرات مثل هذه العجوز فى انتظار الإنقاذ العاجل. ذاع صيت سمر نديم بعد إنقاذ هذه الحالة التى كادت أن تفارق الحياة لولا أن مدت لها يد الرحمة، ونقلتها سمر لبيت صغير سمته بيت الزهرات، وحازت على دعم كبير من المتابعين والمشاركين لها فى هذا العمل الرحيم، ومن هنا بدأت تجمع الحالات، واحدة تلو الأخرى، تنقلها من الشارع إلى «بيت الزهرات»، ورغم بساطة المكان إلا انها كانت تملؤه بالحب والستر والرحمة. وكبر الخير مع الأيام وصار مبادرة عظيمة تعرف ب»زهرة مصر». تقول سمر نديم: «بدأت مسيرتى بمقاطع دعم اجتماعى بسيطة، وقررت أن أبدأ من أول «استغاثة» حيث تلقيت نداء من سيدة مسنّة تُدعى «ضحى»، رفضتها دور الرعاية لعدم توافر أوراق رسمية تثبت هويتها، استأجرت شقة صغيرة وأطلقت عليها «دار زهرة مصر»، وهناك بدأت أولى حكايات الإنقاذ. ومع الوقت ودعم أهل الخير «زهرة مصر» لم تتوقف عند كونها مأوى لسيدات بلا مأوى، إنها مشروع للحياة، هنا لا تجد المرأة فقط سقفًا يحميها، بل تجد من يعلّمها كيف تبدأ من جديد. تُقدم لهن رعاية طبية متخصصة، ودعمًا نفسيًا متواصلًا، وجلسات تأهيل نفسى وعلاجا من الإدمان، وورشا تدريبية على حرف يدوية مثل التفصيل والخياطة وصناعة المفروشات، حتى تتحول كل واحدة منهن إلى «منتجة»، لا عبء على المجتمع. مضيفة: «تجمع الدار حكايات مختلفة لسيدات عانين أشد المعاناة وذقن نفس الوجع رغم اختلاف الحكايات، بعضهن نساء تعرضن للاغتصاب، أو طُردن من بيوتهن بعد فقد الزوج، أو تركهن الأبناء فى الشوارع، أو حتى فنانات وسيدات تعليم عالٍ وصلن إلى التشرد بسبب المرض أو الإدمان أو خلافات أسرية. واليوم، كثيرات منهن يعملن فى مشروعات صغيرة تحت رعاية الدار، ويُشاركن فى معارض خيرية لبيع منتجاتهن. لم يتوقف حلم سمر عند الدار البسيطة فمازال هناك الكثيرات من المشردات بالشوارع وعلى الأرصفة ينتظرن الإنقاذ ولذلك هى الآن تؤسس لما وصفته ب»مجمع زهرة مصر» مشروع متكامل يضم مسجدًا، مأوى دائمًا، مركزا طبيا، وورش إنتاج وتدريب للفتيات والسيدات، فى محاولة لتحويل فكرة الإيواء إلى «حياة كريمة دائمة».