فى زمن تُختبر فيه الرحمة، وتنهك فيه القلوب بالفقر والعجز والمرض، لا تزال هناك وجوه مضيئة تشرق بالأمل لليائسين، وقلوب تتسع حين تضيق دروب الحياة، وأرواح توزّع الدفء فى أشد أوجه السقيع، وبيوت تنسج حضننا لمن أنهكتهم قساوة الأرصفة.. هؤلاء ليسوا مجرد أهل للعطاء، بل بناة حياة ينشرون الخبز والحب على حد سواء دون مقابل.. فبرغم التحديات الاقتصادية والاجتماعية، لا تزال مصر تحتضن نماذج مُلهمة لأشخاص اختاروا طريق العطاء دون انتظار مقابل، رجالا ونساء، شبابا وكبارا، قرروا أن يكونوا جزءًا من الحل، وأن ينشروا النور فى حياة غيرهم، بعيدًا عن الأضواء أو المصالح.. «الأخبار» فى ملفها تفتح أبواب الحكايات التى لا تُروى كثيرًا، حكايات من قرروا أن يرمموا ما هدمه الزمن، وأن يجعلوا من إنسانيتهم سلاحًا فى وجه القسوة. الحاجة عزيزة أو كما تعرف فى منطقتها ب«أم الغلابة» نموذج للحب الخالص، وللقلب الذى لا يعرف سوى العطاء، ذاقت مرارة الجوع باكرا، فقررت ألا تترك جائعًا، فصارت أمًّا حقيقية لمنطقة بأكملها، لا يعرف قلبها الراحة، ولا تغمض عيناها قبل أن تطفئ آخر شعلة فى مطبخها، وتتأكد أن لا أحد بات جائعًا بالقرب منها، لا تشتكى من الغلاء، ولا تلومن الزمن. فقط تعمل بجهد وتجعل من طعامها رسالة، ومن بيتها مأوى للقلوب، اختارت أن تعيش لإكرام البسطاء بقرار من قلبها، لا بورقة من جهة رسمية ولا بمنحة من منظمة.. ولدت الحاجة عزيزة فى قرية أشمون بمحافظة المنوفية ومرت فى طفولتها بلحظات قاسية من الجوع والفقر، عرفت فيها معنى أن تنام جائعًا، كانت تبكى فى صمت كلما مرّ بجوارها قدر طعام لا تستطيع الوصول إليه وهى تتضوع جوعًا، هذه الذكريات كانت الشرارة التى أشعلت داخلها وعدًا بألا تترك محتاجًا. حين تزوجت وانتقلت إلى منطقة إمبابة، لم تغيرها المدينة، بل زادتها إصرارًا. رأت الجوع فى عيون أولاد الكثيرين، وشاهدت العمال يمرون دون طعام، وهنا قررت أن تبدأ، لم تكن تملك مالًا كثيرًا، لكنها كانت تملك إرادة، وكثيرًا من العطاء، بدأت بقدر صغير وباجور غاز تطهو عليه عدسًا أو مكرونة وتوزعها بنفسها على عشرات من عابرى السبيل. تقول «حين بدأت بإطعام الجائعين فى الشارع أنا وسيدتان من جيرانى كنا نفترش «حللنا» البسيطة ومواقدنا فى الشارع ونعود لبيوتنا سعداء بعد أن يفرغ آخر إناء لدينا، ولكنى كنت أحزن عندما يأتى أحدهم جائعًا بعدما نفد الطعام، كنت أتمنى لو أطعم المنطقة بأكملها، وأضيف لقائمة طعامى البسيط أنواعًا شهية تسرهم، وبمرور السنين كبرت وكبر معى الخير وأصحابه حتى أنشأت جمعية أحباب الكريم وأصبح أهل الخير يساعدوننى دائما، بالجهد والتبرعات ومنذ ذلك الحين ولم أترك عملا يسعد أصحابه إلا وفعلته». مكملة حديثها: ولأن الخير يترعرع أينما وضعت بذوره، كبر الباجور وصار مطبخًا كبيرًا، وتحولت الحلة إلى أوانٍ عملاقة، أما العشرات المقبلون على الطعام فصاروا آلافا، حتى طبق العدس صار موائد مصفوفة يوميا تنتظر الجائعين، وبدلا من تقديم عشرات الوجبات أصبحنا نقدم أكثر من ألفى وجبة يوميا، لا نسأل ضيفنا عن اسمه أو حاله أو ديانته، بل نطمئن فقط أنه أخذ كفايته تماما من الطعام. الحاجة عزيزه لا تملك تمويلًا من جهة كبرى، ولا تسعى خلف شهرة أو كاميرات، فقط تستقبل تبرعات أهل الخير وتحوّلها إلى أرز ولحمة وخضار وسندوتشات بقلوب دافئة تعطى الحب قبل الطعام، تعمل منذ الصباح الباكر وحتى نهاية اليوم ومعها فريق من شباب الحارة وسيدات ورجال يقومون بطهو الطعام وبدء تقديمه من الواحدة ظهرا وحتى منتصف الليل. لكن الحكاية لم تتوقف عند الطعام، فقد كانت تعرف أن هناك أوجاعًا لا تقل قسوة عن الجوع، كانت ترى وجع القلب واحتياج الروح. كانت تزوّج الفتيات اليتيمات اللاتى لا يجدن من يساندهن، تشترى لهن فساتين الزفاف، وتدفع أحيانًا أجر المأذون من مالها الخاص، وتتنقّل بين البيوت تجمع أثاثًا بسيطًا، يبهج قلب عروس افتقدت طعم الفرح.. وحين يأتى الموت، لا تتأخر، تُغسِّل المتوفى بيديها، وتُعد الكفن، وتشيّعه إلى مثواه الأخير كما لو كان أحد أبنائها. فى أيام الشتاء القارس، لا تُغلق بابها، بل تفتحه على اتساعه لتوزيع البطاطين والملابس على كبار السن والمشردين، وتقول بلهجتها الصادقة: «البرد قد يقتل أكثر من الجوع».. ليس هذا فقط بل إنها تعيد ترميم الشقق التى أتلفتها الحرائق وتسلمها لأصحابها بأثاث جديد ودهانات جديدة كأنها شقة للعروسين. لا تمتلك الحاجة عزيزة صفحة على مواقع التواصل الاجتماعى، ولا تُجيد كتابة المنشورات، ولا تلتقط صورا مع الفقراء ولا تعرف مصطلحات «الترند»، لكنها تتقن لغة القلوب، وتفهم أن طبق طعام دافئا يمكن أن يدخل السرور على قلب إنسان. هى نموذج نادر لأناس اختاروا أن يعيشوا للخير، وأن يقيسوا إنجازاتهم بعدد البطون التى شبعت، لا بعدد الإعجابات والمشاركات على صفحات التواصل الاجتماعى.. الحاجة عزيزة لا تقرأ الصحف، ولا تعلم أنها أصبحت حديث الإعلام، ولا تهتم بأنها صارت «رمزًا للخير» فى إمبابة. كل ما يشغل بالها هو الغد: ماذا سنُطعم الناس غدًا؟ كم وجبة سنُعد؟ من يحتاج دواء؟ ومن لا يجد كفنًا. الحاجة عزيزة أم حقيقية لا يعرف قلبها الراحة، ولا تغمض عينيها قبل أن تطفئ آخر شعلة فى مطبخها، وتتأكد أن لا أحد بات جائعًا بالقرب منها، لا تشتكى من الغلاء، ولا تلوم الزمن. فقط تعمل، وتجعل من الطعام رسالة، ومن بيتها مأوى للقلوب المتعبة.