في زمنٍ كانت فيه التفاصيل البسيطة تصنع سعادة كاملة، وكانت رائحة الحطب المشتعل تسبق صوت الحكايات، ودفء النار يُغني عن ألف بطانية.. هناك، في قلب الريف المنوفي، وُلد الكانون، لم يكن مجرد موقد للطهي، بل مسرحًا للذكريات، ومنبعًا للحكايات، ومكانًا اجتمع حوله الأحبة حينما كانت الحياة أكثر دفئًا رغم قسوة الشتاء. وسط الزحام الإلكتروني، ووهج التكنولوجيا، هناك حنين لا يخبو إلى لحظة صافية من زمنٍ مضى، حين كان الكانون سيد المطبخ الريفي، ودفء البيوت في الليالي الباردة. الكانون، ذلك الموقد الطيني الذي كانت تصنعه الأيادي بحب، من طين الأرض وتبن الزرع، لم يكن مجرد أداة لطهي الطعام، بل قطعة من الروح، يُصنع في أحد أركان الفناء أو المطبخ، بتقنيات بدائية وأدوات بسيطة، لكنه يحمل تعقيدًا عاطفيًا لا تملكه كل الأجهزة الحديثة. كانت ربة البيت تُعد عليه أطباقًا لا تُنسى: طواجن الأرز المعمر، البطاطس باللحم، الفول المدمس، والخبز الفلاحي الذي يُقمر على مهل فوق ناره الهادئة. حوله، يتحلق الأطفال، ليس فقط لينعموا بحرارته، بل لينهلوا من حكايات الجدة، تلك التي تبدأ دائمًا ب"كان يا ما كان" وتنتهي بنعاسٍ لذيذ تحت دفء "الكانون". "الكانون والمجتمع" كان الكانون شاهدًا على الترابط الاجتماعي، فحين كانت نساء القرية تتبادلن وصفات الطبخ وهن جالسات حوله، كان الأطفال يلعبون بجواره، وكان الرجال يستظلون بدخانه وقت السمر لم يكن جهازًا منزليًا، بل كائنًا حيًا داخل البيت، له طقوسه ومكانته في تفاصيل الحياة اليومية. "الرمزية والحنين": اليوم، ورغم تراجع استخدامه أمام الغاز والكهرباء، إلا أن الكانون عاد – ولكن بشكل مختلف، عاد كقطعة ديكور تراثي، تُوضع في الشرفات أو زوايا البيوت، تحمل عبق الماضي وتُذكّر الأجيال بما كان، بعض الأسر تعيد استخدامه، لا لحاجتها للطهي عليه، بل لحاجتها للشعور بالدفء الحقيقي، الذي لا تصنعه النار وحدها، بل تصنعه الذكريات. "حكاية كانون": يحكي عم عبد الحميد، سبعيني من إحدى قرى المنوفية، بحنين للماضي: "أنا صنعت أول كانون وأنا عندي 12 سنة، كان أبوي بيقول لي: خلي الطين يتحبب في إيدك، عشان الكانون يطلع من قلبك. الكانون ده مش موقد.. ده سُترة بيت، وريحة أيام ما تتعودش". الكانون لم يمت هو فقط غفا قليلًا بين دفاتر الذكريات، وما زال في تفاصيل الريف المنوفي نبضٌ يتوهج حين يُشعل أحدهم نار الكانون، لا ليطبخ، بل ليستحضر زمنًا كانت فيه النار تُشعل الدفء داخل القلوب، قبل أن تُشعل القدر. اقرأ أيضًا | «ملامح من المنوفية» فى متحف الحضارة