سواء كانت الدعوة المذكورة «بالهنا والشفا» أم «صحة وعافية».. وأحيانا «بون أبيتي» فنحن دائما نتشوق و«نفسنا نلاقي» ونأكل «ألذ أكلة في الدنيا كلها». وطبعا تأتي معها «لقمة هنية تكفي ميه».. كاعتراف صادق وشعور جميل وعطاء كريم يشرح قلبك وقلوب الذين معك على المائدة .. و«ما أحلاها من قعدة وصحبة وألفة». أما»سفرة دايمة».. و«تسلم ايديك» فهي من مراسم وطقوس الدلع والمجاملة وما ألذها.ونحن نتذكر الصحبة ونشيد بمهارات من قامت بطهو الأكل وتقديمه لنا وكلنا معا نستمتع بالأكل ونتلذذ بمذاقه.وهكذا ننتقل من طبق الى آخر من مقبلات ومشهيات تمهيدا واستعدادا للوجبة الرئيسية. ومعها وبها تكتمل العزومة وقد تتممها الفاكهة ثم الحلويات و..«الشاى» أو «القهوة». طقوس ومراسم نمارسها باستمرار وباستمتاع ونحن نأكل ما يتم تقديمه لنا من ما لذ وطاب. وماذا عن الاستمتاع بطهو الأكل واعداده؟ خصوصا أن هذه الخطوة تحديدا صارت في السنوات الأخيرة موضع لقاءات ونقاشات وكتب وأفلام تتحدث وتتناول ليس فقط ما نأكله بل أيضا كيف نأكله؟ وكيف يتم طهوه ؟ وكيف يتم ؟احضار وتحضير مكونات الطهو وتلك الوجبة .. لكي تكون صحية ولذيذة وممتعة و«طعمها يفضل فى البال». «ثقافة الأكل» صار لها أهلها الكرام من مثقفين وخبراء ومحترفين وهواة ومريدين ورحالين ومتابعين ونشطاء.. نساء ورجالا. وكلهم شاغلهم وكلهن شاغلهن الأهم الأكل بكافة جوانبه ومراحله..الأكل اختيارا وتحضيرا واعدادا وطهوا وطبخا وتقديما عبر الحدود ولدى شعوب العالم. وطبعا «كل شيف وله طريقة وطرق في الطهو». ومن ثم تأتي سلسلة لقاءات وأفلام قصيرة عن أسماء لها شأنهافي عالم الطهو. هذه الأيام تعيد شبكة «سى ان ان» التليفزيونية لأكثر من مرة حلقة الشيف الرحالة الشهير «أنتوني بوردين» في ايران وتعرفه على أكلاتهم وتواصله معهم خلال الحديث الدائر حول الأكلات والوصفات وما هو المميز في المطبخ الايراني. وهنا أتساءل: هل يمكن أن نسمي هذا التقارب «دبلوماسية الأكل والمطبخ»؟ «بوردين» منذ سنوات كان في مصر أيضا وحلقته شملت أكل الفول من عربة في الشارع والكشري عند «أبو طارق» وأيضا أكل الملوخية والكباب والحمام المحشي، ومثلما هى الحال مع حلقات «بوردين» فان كتب ولقاءات «مايكل بولان» لعبت وتلعب دورا في تثقيف الناس وتوعيتهم بالأكل الصحي والاهتمام بكل تفصيلة في أكلهم وشرابهم. وبما أن ما يتم تقديمه هو «ثقافة» فان د. «أندرو ويل» أثناء الحديث عن الأكل الصحي والحياة الحسنة يذكر «الأكلة المتوسطية» (من دول البحر المتوسط) ويشير الى أن في تناولنا لما يعد «متوسطيا» يجب أن نتبع أيضا ما يفعله أهل المتوسط وهم يتناولون الأكل.. يمضون وقتا أطول في التواصل مع من يجلس معهم على المائدة ويتحدثون معهم ويشاطرون طعامهم وأفكارهم وأحلامهم. وقد اعتادت الصحف الأمريكية اليومية على أن تضم في عددها الصادر يوم الأربعاء من كل أسبوع ملحقا خاصا بالطعام والأكل
يضم ليس فقط وصفات وطرق طهو بل موضوعات عن الأكل والطهو والمطاعم واهتمامات شعوب العالم المختلفة بالأكلات والمشروبات والبهارات والشاي والقهوة والسكر والملح. والكتابة في الصحف والمجلات عن الأكل والطهو لم تعد مجرد «سلق بيض» أو «طشة» و»طرطشة» بل تتطلب معرفة عميقة بالأمر وموهبة وقدرة على السرد وشرح المعاني و»بشهية مفتوحة» في كل فتفوتة في ما نأكله أو نحضره أو نطبخه.
التفاصيل هي المتعة واللذة في الأكل والتواصل مع دنيانا وخلق الله. وبالطبع يلاحظ المرء أن السنوات الأخيرة شهدت أشكالا وأنواعا عديدة من «البيتزا» و»السلطة» و»الزبادي» و»الأيس كريم» ولدى أغلب ما نأكله أو نشربه.
وما الدنيا إلا بوفيه مفتوح. و»العولمة» في الأكلات من مختلف الجنسيات
كما يذكر صديقي علاء «واخدة راحتها من سنين من غير عقد ولا كلاكيع و من غير حنجورية الدفاع المستميت عن هويتنا ومطبخنا والكلام الكبير اياه» لكن طبعا أكلاتناالشعبية دايما في البال وهل نستطيع أن نعيش من غيرها.
أما صاحبنا تامر له نظرة خاصة في الأكل اذ يقول:»شهوتنا للأكل ربما هي الشهوة التي لا نحاسب عليها بنظرة أو كلمة .وواخدين راحتنا فيها.ولا حد يقولنا ده مايصحش أو ده عيب أوايه انت نسيت نفسك؟ ومش واخد بالك من سنك؟! يالا .. بالهنا و الشفا»
وقد نجحت الكاتبة المكسيكية لاورا اسكيبيل أن تجسد في روايتها
«كالماء للشوكولاتة»ما في الطهو والطبيخ و.. في المطبخ من سحر واغواء واغراء وطبعا دفء وحرارة.
الرواية نشرت في عام 1989وبيعت منها أكثر من خمسة ملايين نسخة. وهي ..»حكاية امراة امتلأ قلبها شغفا بحب مستحيل. فاستعاضت عن العشق بفن الطعام، وبدلا من أن تكبت رغبتها في أغوار نفسها، فجرت البطلة أحاسيسها الانسانية، أو الأصح الأنثوية، في وصفات مختلفة يمثل الحب المكون الرئيسي فيها» هكذا تكتب مايا الحاج في قراءتها للترجمة العربية للرواية. وقد ترجمها صالح علماني. وهذه الرواية قد تم انتاج فيلم عنها وبالاسم ذاته عام 1992 نال اعجاب الجماهير على امتداد العالم. والكتاب والفيلم مازالا في الذاكرة خاصة لمن يعشقون الحب وسنينه ويجدون في العشق ملجأ وملاذا في مقاومة العدم والملل.
لاورا اسكيبيل(من مواليد 1950) مثلها مثل كتاب أمريكا اللاتينية أخذهم ولعب بخيالهم الواقع الساحر لمجتمعاتهم فكان ما كان «النهم المستمر» و»التعطش الدائم» للحظات التذوق والمتعة والاستمتاع بها والتشوق اليها. وبما لديهم أيضا سحر الحكي وقدرة التحلق بالخيال توالدت حكاياتهم عن تفاصيل الحياة.. مشربية حياتهم.
نعم،العاشق والمعشوق وما بينهما من أحلام واحباطات ولقاءات ولحظات فراق..
ورواية «كالماء للشوكولاتة» مقسمة الي 12 قسما شهور السنة. وكل قسم يبدأ بوصفة لأكلة مكسيكية ومن خلال الحديث عنها واعدادها وطهوها تتوالد المشاعر وتتشابك العلاقات الانسانية وتتشكل وتنمو قصة حياة وحب بين «تيت» و»بيدرو». وقد قيل في تفسير معاني عنوان الرواية أن الماء وليس الحليب يستخدم في بعض دول أمريكا اللاتينية في تحضير كوب الشوكولاتة الساخن وبالتالي تذوب الشوكولاتة مع درجة غليان الماء . كما أن الشوكولاتة له طعم أما الماء فلا طعم له. ومن هنا يستخدم هذا التعبير في توصيف حالة العاشق أو حالة العاشقة وحالة العشق أيضا. ومعها حرارة اللهفة وغليان اللقاء وفورة الدفقة .. وحزن الاحباط معا.
لورا اسكيبيل في كلمة لها حول ما يعنيه المطبخ قالت : عندما وقفت فيه بدأت أتذكر ماتم طهوه في هذا المكان .. وأكتشفت ما كنت أعرفه وأنا طفلة بأن في امكانك أن تسمع أصواتا تعرفها وتعرفك أنت في هذا المطبخ. كما قالت : «ان والدتي ستبقي حية مادام هناك أحد مستمر في طهو وصفاتها»
..................
ومهما كان الضجيج المثار ومهما كانت الهيصة والزمبليطة في الإعلانات والبرامج عن الأكلات أو المطاعم أو حتى «تحديث» المطابخ وامكانياتها فالأكل في نهاية المطاف «نفس» بفتح النون والفاء. وهكذا قد تتنوع الوصفات والأكلات والمهارات .. وكل طباخ له خبرته و«نفسه» وكل امرأة ولها شطارتها وطبعا «نفسها».ولكن الأمر الأهم هل لديك أنت أو فيك«نفس»(هذه المرة بكسر النون) أم أن «نفسك مسدودة» و»مش طايق تاكل حاجة!». وطبعا لا تنس أبدا ما قيل يوما ما عن قرحة المعدة وغيرها بأنها تأتي اليك أو تصيبك ليس «من الحاجات اللي بتاكلها ولكن من الحاجات اللي بتاكلك!»
وأخيرا ..بقدر ما شهيتك للأكل والتواصل والإقبال على الحياة تبقى مفتوحة بقدر ما تبقى الدنيا حواليك لذيذة وطعمة «ومش محتاجة دعوة» .. «فالدعوة عامة ومفتوحة» و»اتفضل كل معانا» و»مطرح ما يسري يمري..»