مؤخرًا نظمت الجامعة الأمريكيةبالقاهرة معرضًا فنيًا بعنوان «السيدة زينب: التاريخ، سياسات التطور العمرانى والمستقبل» يستمر حتى15 أغسطس المقبل. وهو نتاج تعاون مشترك مع جامعة أوبرلين الأمريكية، بهدف طرح سرديات تاريخية جديدة عن حى «السيدة زينب»، حيث أقيمت فعاليات وندوات مصاحبة للمعرض شارك فيها متخصصون ركزوا على تطوير الحى التاريخى وفرصه المستقبلية فى ظل تسارع الرغبة فى إعادة تشكيل مدينة القاهرة القديمة. وخلال ندوة بعنوان: «حى السيدة زينب.. الأثر، المجتمع، ومستقبل السياسات العمرانية» تحدثت الدكتورة أميرة أبو طالب الباحث الزائر فى الدراسات الإسلامية بكلية علم اللاهوت، جامعة هلسنكى، عن تخصصها المعنى بأخلاقيات القرآن وأشارت إلى أن فصل الدين عن منطقة السيدة زينب أمر لا يمكن أبدًا تحقيقه، فجزء من جمال الحى يعود للإرث الدينى الموجود داخله عبر العديد من الظواهر المعروفة باسم التدين الشعبى. تقول: «المنطقة بداخلها إرث متوارث يمكن لأى شخص ملاحظته، وهو ما يظهر جليًا على أسماء يافطات المحال التجارية الواقعة فى المنطقة، بجانب تواجد مئات من المريدين داخل مسجد السيدة فى أغلب ساعات اليوم، فقد لعب الدين دوراً مهماً فى تشكيل هوية الحى بمرور الحقب الزمنية، لكن رغم ذلك ينتشر القبح والقمامة والأصوات المزعجة فى معظم شوارع وحارات الحى؛ لذلك فإن سؤالى دائمًا هو كيف يتصالح القبح مع الدين وما علاقة الدين بالجمال؟». ترى «أميرة» أن كلمة الإحسان، التى ذُكِرت فى القرآن قرابة 200 مرة، لها مدلول أعمق كثيرًا من معناها فى وجدان الناس. تقول: «الإحسان بطبيعة الحال مرتبط دائمًا بالخير والجمال، مثل قوله «تبارك الله أحسن الخالقين» ومفهوم الإحسان انعكس أيضًا على التراث فالمعمار ذاته اهتم بالجماليات، عبر استخدام الخطوط العربية الجميلة أو الأشكال الهندسية أو الزخارف النباتية. لكن بمرور الوقت أصبح القبح المرئى بأشكاله المختلفة مباحًا وسط الأجواء الدينية، وسبب ذلك هو تعود الناس على القبح المرئى والسمعى والمعنوى، وهذه الأمور ينتج عنها نوع من التبلد الأخلاقى وعدم الاكتراث بصور القبح المختلفة فى الشوارع. إنها أمور تقلل من قدرتنا على إدراك الخير والوقوف ضد الظلم والقهر والصراع، لكن ما أردت طرحه هو: إذا كان للدين طاقة فى أرواح السكان داخل حى السيدة زينب وإذا كان متجذرًا فى قلوبهم، فهل يمكننا إذن استدعاء هذه الطاقة كى تكون مصدرًا لمستقبل نظيف يربط الدين بمفهوم الإحسان والجمال مرة أخرى؟». استمرارية المدينة القديمة المعمارية الدكتورة مى الإبراشى مؤسسة ورئيس مجلس إدارة جمعية الفكر العمرانى «مجاورة» طرحت أيضًا رؤيتها حول منطقة السيدة، إذ أشارت للسكان المحليين للحى وتعلقهم بتراثهم المحلى، بجانب شعورهم بملكية تراثهم الدينى داخل الحى: «هذا إحساس شعبى عميق، يعكس وجود مجتمعٍ حىٍّ أكثر تماسكًا من مجتمع سكان قصبة القاهرة (شارع المعز) حيث جرى تفريغها بسبب النشاط السياحى داخلها، بجانب انتقال كثير من سكانها لمناطق أخرى بسبب تعرضهم للإهمال خلال فترات سابقة». فى المقابل ترفض مى تسمية هذه المناطق بالعشوائية إذ تؤكد أنها مناطق تاريخية غير مخططة. تقول: «سكان المناطق التاريخية عادة ما يُنظَر إليهم بنظرة علوية لكن الواقع يقول إن هذه المناطق هى نتاج مجموعة من الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية المعقدة، والقاهرة التاريخية هى للتراث الحى وليست فقط للآثار، ومع حبى وحزنى على ما نفقده يوميًا بسبب هدم مبانٍ تراثية وأثرية لكننى أرى أن استمرارية القاهرة التاريخية كتراث حى أهم كثيرًا من تشييد مبانٍ جديدة داخلها لا تعبر عن السكان المحليين». توطين الهوية الثقافية وفى محاضرة أخرى قدمتها الدكتورة مونيكا حنَّا عميد كلية الآداب بالجامعة الأمريكية فى بغداد بعنوان: «إعادة توطين الهوية الثقافية.. إيزيس والسيدة مريم العذراء، والسيدة زينب»، قالت إن الصفات بينهم جميعًا قريبة رغم التفاوت الزمنى لكل شخصية، وهو تصور مبنى على إعادة تقديم التخيلات الشعبية لهذه الشخصيات جميعًا. تحكى حنا أن ما دفعها لدراسة هذه الجزئية هو ترويج الغرب للحضارة المصرية القديمة باعتبارها حضارة ميتة؛ لذلك أرادت تفكيك السردية الغربية والرد عليها، وقالت إنها ترى أن هناك سمات ثقافية مشتركة ومتوارثة بين الشخصيات الثلاث المحورية «إيزيس، ومريم، وزينب»، لافتة إلى أن منطقة الصعيد والدلتا والقرى والنجوع حاضنة وأرض خصبة بالنسبة للتراث الثقافى المصرى. تقول: «داخل القاهرة نفقد عادة جزءاً كبيراً من تراثنا الثقافى؛ لذلك بحثت فى الفن، لأنه المساحة التى نستطيع من خلالها التفاعل بأشكال محتلفة ومتنوعة. هناك مثلًا صور لحورس وهو يقتل تمساحًا، وقد وجدت لها شبهًا كبيرًا فى إحدى الصور الخاصة بمارجرجس، فى دلالة لانتصار الخير على الشر، وهى رمزيات جرى استخدامها فى الفن المصرى القديم، والقبطى». وتكمل: ظل المصريون حتى يومنا يقدسون الموت ويتوارثون عقائده الجنائزية، وعندما جاء هيرودوت إلى مصر فى القرن الخامس الميلادى، وقبله ديودوروس الصقلى فى القرن الأول قبل الميلاد لاحظا اهتمام المصريين بطقوس الجنازة، وهى عادات نمارسها حتى اليوم. فى الصعيد مثلًا لا يزال الناس يمارسون طقوس الموت. ومنها، النحيب طيلة ثلاثة أيام متواصلة، وإعداد الطعام، بجانب تشابه بعض الممارسات فى الحضارة المصرية القديمة مع ممارسات معظم الديانات اليوم. داخل مقبرة رمسيس مثلًا نجد بعض النساء على الجدران يبكين وقد رسُمِت الدموع واختلاطها بالكحل على وجوههن، فالكحل علامة على الجمال، وأيضًا كانت تضعه النساء وقت الموت، وهى عادة متوارثة حتى اليوم». وفى ختام محاضرتها قالت حنا إن المخزون والإرث الثقافى المصرى الذى يربط القديم بالحديث؛ أى إيزيس بالسيدة زينب والسيدة العذراء لا يريد الغرب منا أن نعرفه، فهم يرغبون فى فصل ثقافتنا عن بعضها البعض أو نسب الحضارة المصرية القديمة لأنفسهم، فعندما أصدر عباس حلمى الثانى قانون الآثار حاولت المؤسسات الغربية توبيخه، وبدأوا عملية الحط من قيمة الآثار المصرية القديمة كونها لا تمثل شيئًا مقارنة بالآثار اليونانية أو الرومانية، وأنه ولولا جهودهم فى الحفر عن الآثار لما وجد الفلاحون المصريون طعامهم الذى يسد جوعهم! كتلة سكانية الخبير العمرانى عمرو عصام قدم هو الآخر ورقة بعنوان: «من الترام إلى مترو الأنفاق.. حى السيدة زينب فى مائة عام» قال فيها إن حى السيدة بشوارعه وأزقته جزء من نسيج مدينة القاهرة المتنوع، على الرغم أن الحى لا يمتلك دورًا مركزيًا بالنسبة لشبكة المواصلات مثل العتبة ورمسيس. وأضاف: «أهمية الحى يرجع للدور البينى الذى يلعبه بين المناطق، وعلاقته العميقة ببنية المدينة على مر العصور، وهو يُصنَّف تاريخيًا كأحد «الأحياء الحكومية» الرئيسية، ويشارك حى عابدين هذه الصفة. وقد احتضن الحى العديد من دواوين الحكومة والمؤسسات، مما جعله مركزًا وظيفيًا حيويًا يجتذب يوميًا عددًا كبيرًا من الموظفين والزوار، وهذه الطبيعة الوظيفية ميزت السيدة زينب عن الأحياء السكنية البحتة، وأكسبته ديناميكية خاصة». ويكمل: «شكلت الجغرافيا ملامح الحى بشكل كبير؛ حيث يحده شارع الخليج المصرى (شارع بورسعيد حاليًا) من الغرب، وتلال زينهم من الجنوب، والمقابر من الشرق. وهذه المحددات الجغرافية، أثَّرت على نمو الحى ودمجه فى شبكة المواصلات المركزية بالقاهرة. فعلى سبيل المثال، شهد شارع بورسعيد توسعات كبيرة فى أواخر الأربعينات، حيث أزيل سبيل تاريخى كان يتوسطه، فى محاولة لمواجهة أزمة الزحام المتزايدة آنذاك. لكن بمرور الوقت تغيرت الخرائط الإدارية للحى، ففى أواخر الأربعينيات، كانت مناطق مثل جاردن سيتى جزءًا من الحى قبل أن يتم فصلها لاحقًا نتيجة للتغيرات الإدارية والمؤسسية. وهذا يعكس التطور المستمر والمرونة الإدارية التى شهدتها القاهرة فى تقسيم وتصنيف أحيائها». وينهى «عصام» حديثه قائلًا إن خرائط القاهرة القديمة، مثل خريطة الحملة الفرنسية، تكشف كيف كان النسيج العمرانى للمدينة قبل دخول الترام. إذ كانت القاهرة القديمة، بما فى ذلك السيدة زينب، هى الكتلة السكانية الأساسية. آنذاك، والأحياء أشبه بكيانات شبه مغلقة، حيث كان التنقل بينها محدودًا بسبب غياب شبكة الطرق الحديثة ووجود مساحات شاسعة من الأراضى الزراعية والمستنقعات، وقد اعتمدت وسائل النقل بشكل كبير على الحيوانات والدواب، مثل الحمير وعربات الكارو، مما يعكس نمط الحياة والتنقل السائد فى تلك الحقبة.