اختفت المقدمات وقصرت الأبيات فوجدنا الفرزدق والأخطل وجريرا شعراء يكتبون ويلتف الجمهور حولهم. كيف ينظر شبابنا إلى الوطن؟ فى ظل مفاهيم ما بعد الحداثة التى تنادى «بالْ لادولة « والتى التقت مع ما تنادى به تيارات أخرى. من المهم أن يدرس الشباب جغرافية بلده ووطنه وتاريخه وأن نزرع فيه الانتماء إلى هذا الوطن، ولذا فإن فرض التربية الوطنية والتاريخ والجغرافية واللغة العربية لتصبح موادَ أساسية يعد أمرا لا نقاش فيه فلا ينبغى لشاب عربى أن يتخرّج من جامعة دون أن يدرس هذه المواد وعليه أن يتعلم لغته وليدرك أن حب البلد مقدس وأن الدفاع عنه فرض، وأن وجودنا مرتبط ببقائه وازدهاره؛ وعليه أن يدرس أدب الانتماء، يحمل الأدبُ الإنسانى القِيمَ والمُثُل العليا؛ وفى أدبنا العربى نجد حبّ الوطن واحترامه والذَّوْد عنه والشوق إليه ركنا ركينا فيه، كما أن الحنين إلى الوطن فِطرة فى الإنسان ولذا رأينا الأدب العربى شعره ونثره يعبر عن ذلك الشوق إلى ديار الوطن، فالشاعر العربى فى معظم المعلقات العشر لا يعترف بالغُربة ولا بالاغتراب إلا إذا فارق قومَه وعشيرته وأرضه وبلده، وما ظاهرة الحنين إلى الوطن بجديدة على العربي، فالعربى الأصيل يحنّ إلى وطنه ويدافع عنه ولو لقى حتفه فى سبيل الدفاع عنه، فهذا الوطن يشكل لبِنةً رئيسة فى بناء القصيدة، ألم يقل زهير بن أبى سلمى: وَقَفْتُ بِهَا مِنْ بَعْدِ عِشْرِينَ حِجَّة فَلأيَاً عَرَفْتُ الدَّارَ بَعْدَ تَوَهُّمِ أَثَافِيَ سُفْعاً فِى مُعَرَّسِ مِرْجَلِ وَنُؤْياً كَجِذْمِ الحَوْضِ لَمْ يَتَثَلَّمِ فَلَمَّا عَرَفْتُ الدَّارَ قُلْتُ لِرَبْعِهَا أَلاَ أَنْعِمْ صَبَاحاً أَيُّهَا الرَّبْعُ وَاسْلَمِ لقد فارق هذى الدار التى كانت مكان صباه قبل عشرين عاما ولكنه يعود إليها عاشقا ترابها ومفتقرا أترابه، ويراها «رَبعا» حتى لو تغيرت ملامحُها وطُمِست جغرافية الأمكنة فيها لأنه يراها بقلبه لا بعينيه؛ وها هو الشريف الرضى يقول: وَلَقَد مَرَرتُ عَلى دِيارِهِمُ وَطُلولُها بِيَدِ البِلى نَهبُ فَوَقَفتُ حَتّى ضَجَّ مِن لَغَبٍ نِضوى وَلَجَّ بَعُذَّلى الرَكبُ وَتَلَفَّتَت عَينى فَمُذ خَفِيَت عنى الطُلولُ تَلَفَّتَ القَلبُ الهوى يتجه صوب الوطن يظل القلب متجها صوب بلده وأهله مهما ابتعد مكانا لأنها بين جوانحه. ومَن منا لم يعجب بأبى تمام وهو يقول: نَقِّلْ فُؤادَكَ حَيثُ شِئتَ مِنَ الهَوى ما الحُبُّ إِلّا لِلحَبيبِ الأَوَّلِ كَم مَنزِلٍ فى الأَرضِ يَألَفُهُ الفَتى وَحَنينُهُ أَبَداً لِأَوَّلِ مَنزِلِ هنا يتجلى الشعور بمدى الشوق والحنين إلى الوطن، لقد كان العربى البدوى إذا سافر بعيدا عن وطنه يصحب حفنةً من تراب أرضه يأخذها معه أينما سافر وارتحل، يشمها إذا حنّ لبلده، وإذا مرض شمّها وكأنها دواء. وقد نقل الزمخشرى فى كتابه «ربيع الأبرار ونصوص الأخيار» عن رجل من بنى ضبة قوله : نسيرُ على علمٍ بكُنه مسيرنا وغفّة زادٍ فى بطون المزاود ولا بد فى أسفارنا من قبيضة من التُّرب ننشاها لحبِّ الموالد فكُنه الشيء حقيقته والمسير رحلة طويلة بعيدا عن الديار يصحب فيها العربى الغفة وهى البلغة من العيش أى الطعام ويأخذ معه المزاود وهى الأوعية التى يحمل فيها الماء ليبرد؛ لكنه لا ينسى اصطحاب قبيضة وهى تصغير قبضة أى حفنة من تراب وطنه الذى وُلِد به، يأخذها أينما سار ليشمها وكأنه يأخذ قطعة من بلده فى رحلته لأنه لا يتحمل فراق بلده ووطنه فليصحب ترابه معه. سُليمى والوطن فى شرح ديوان الحماسة للخطيب التبريزى ينقل لنا قول الشاعر: أحبُّ الأَرْضَ تسكنها سُليمى وَإِن كَانَت توارثها الجدوبُ وَمَا دهرى يحبّ تُرَاب أَرضٍ وَلَكِنْ من يحل بهَا حبيبُ وقد أورد أبومنصور الثعالبى فى كتاب «التمثيل والمحاضرة» ما قاله الشاعر: لَقُربُ الدارِ فى الإقتارِ خيرٌ من العيشِ الموسّعِ فى اغترابِ يمضى الشعر العربى من المعلقات إلى القصائد الطويلة التى بها وقوف واستيقاف ووصف الرحلة للراحلة وللأمكنة وما الأمكنة سوى البلد والوطن؛ يُحْدِثُ الشاعر العربى تغييرا فى طول أبيات القصائد لأن الشاعر يكتب فى موضوع واحد فى قصيدته ولم يعد يضمن قصيدته عدة موضوعات كما كان الأمر فى المعلقات التى يزيد عدد أبياتها على مائة بيت، اختفت المقدمات وقصرت الأبيات فوجدنا الفرزدق والأخطل وجريرا شعراء يكتبون ويلتف الجمهور حولهم؛ كل شاعر له جمهوره الخاص يتبارون فى الشعر وقد هجا بعضهم بعضا لكنهم أصدقاء وإخوة. وتتحول مجالس خلفاء بنى أمية إلى مجالس شعرية ونقدية يجلس الخليفة والأمراء والوزراء والولاة واللغويون والنحاة والبلاغيون ويدخل الشعراء ينشدون ويُنتقَدون من كل من حضر هذه المجالس العامرة. وبعد ذلك يأتى المتنبى الذى ملأ الدنيا وشغل الناس، حين يحس هذا الشاعر بالغربة لابتعاده عن وطنه وأهله، لقد بلَغ المتنبى مكانة رائدة فى الشعر ونال أموالا لا تُعد ولا تحصى لكنه عندما فارقَ وطنه حَنَّ إليه وباح شعره بهذا الشوق لوطنه، يقول مخاطبا نفسه التى تتوق لوطنه: «بمِ التعللُ لا أهلٌ ولا وطنُ...» أبومدين أبو الحب يأتى الشاعر أبو مدين ليوضح لنا كيف تمكن حب أهله فى قلبه، يقول: تَضيقُ بنا الدُّنْيَا إذا غِبْتُمُ عَنَّا وَتْزهَقُ بالأشواقِ أرواحُنا مِنَّا بعادُكمُ مَوْتٌ وقُرْبُكُمُ حَيَا وإِنْ غبْتُمُ عَنَّا ولوْ نَفَسًا متْنَا نعيشُ بذكْراكمْ إِذا لَمْ نَرَاكُمُ أَلَاإِنَّ تِذْكارَ الأحِبَّةِ يُنْعشنَا يُحَرِّكُنَا ذِكرُ الأحاديثِ عَنْكُمُ ولولا هَواكُمْ فى الحَشَا ما تَحَرَّكنَا ولولا مَعَانِيكم تَرَاها قلوبُنا إذا نحنُ أيقَاظٌ وفِى الليل إِنْ نِمْنَا نموتُ أسًى مِن بُعْدِكُمْ وصَبابَةً ولكنَّ فى المعنى مَعَانِيكمُ مَعْنَا إِذَا لم تَذُقْ ما ذاقتِ النَّاسُ فِى الهَوَى فَبِاللَّهِ يا خاليَ الحَشَا لا تُعنِّفْنَا أما تَنْظُرُ الطَّيْرَ المُقَفَّصَ يا فَتَى إِذَا ذكَر الأوطانَ حَنَّ إلى المَغْنَى وَفَرَّجَ بالتَّغْرِيدِ مَا فى فُؤادِهِ فيُفْلِقُ أربابَ القُلوب إذا غَنَّى ويمضى الشعر العربى قويا فتيا وقد دخلت ترجمات الشعر الأجنبى من الأمم الأخرى لتمنحه جمالا فوق جمال، تختلط الآداب الفارسية والرومية والهندية والإفريقية بالشعر العربى فتمنحه تصويرا جميلا وأفكارا ثرية. أحمد شوقى والحنين يعدَ أمير الشعراء أحمد شوقى عاشق الوطن: وطنى لو شغُلت بالخلد عنه نازعتنى إليه فى الخُلد نفسي وفى قصيدة أخرى يقول: فيا وطنى لقيتك بعد يأس كأنى قد لقيت بك الشبابَ وكل مسافرٍ سيؤوب يوما إذا رُزِق السلامةَ والإيابَ يظل الشعر عموديا يتكون من بحور عروضية ذات تفعيلات عروضية تتكرر بنظام محدد مقسوم إلى شطرين، ينتهى البيت بقافية فيها حرف رَوِيٍّ واحد، لكن فى عصرنا الحاضر يودع معظم الشعراء القصائد الخليلية (نسبة إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي) الذى اكتشف العَروض -موسيقى الشعر- ليخترعوا شعر التفعيلة الذى تتكرر فيه تفعيلة ما دون عدد محدد، ويختفى البيت ليحل محله السطر الشعرى وتزول القافية لكن حب الوطن لا يختفى.. وفى الشعر النبطى نجد الشاعر خليفة بن مترف وهو يتغنى بوطنه: «أحب البر والمزيونْ واحب البدو والأوطانْ واحبك قبل لا يدرون أهلى وأهلك ولا الجيران» ويبقى الشعر ترجمان الأشواق التى نَحن بها إلى الوطن ونعبر عن حبنا لبلداننا وأهلنا، ألم يقل النبى صلى الله عليه وسلم عن مكة «»إنك لأَحب بلاد الله إليّ، ولولا أن أهلك أخرجونى منك ما خرجت» يتطور الشعر فى رحلة إنسانية ممتدة معبرا عن النفس يروَّحها لأن» القلوب إذا كلّت عميت» ومهما عشق الإنسان وطنه فإنه لن يفيه حقه ويظل القلب متجها إليه أينما سار، إنه الوطن؛ علّموا أولادكم حب الوطن. فى النهايات تتجلى البدايات قال أحمد شوقى : قد يهونُ العمرُ إلا ساعةً وتهون الأرضُ إلا موضِعا