«يبكي ويضحك لاحزنًا ولا فرحا.. كعاشقٍ خطَّ سطرًا في الهوى ومحا/ من بسمة النجم همس في قصائده.. ومن مخالسه الضّبي الذي سنحا/ قلبٌ تمرس باللذات وهو فتى.. كبرعم لمسته الريح فانفتحا/ ماللأقاحية السمراء قد صرفت.. عنّا هواها؟ أرق الحسن ماسمحا/ لو كنت تدرين ما ألقاه من شجن.. لكنت أرفق من آسى ومن صفحا». الشاعر بشارة الخوري (الأخطل الصغير)، الذي تمر ذكرى وفاته اليوم، شاعر حلّق في دنيا الشعر، ومثّل بين شعراء عصره الطليعة الوجدانية والاجتماعية، واعتبره البعض شاعرًا في طليعة شعراء عصر النهضة الأدبية الحديثة، وأبرز روّداها ورجالاتها الذين وضعوا أسسها، وأرسوا بنيانها، ورفعوا مداميكها، والأخطل الصغير هو واحد من أقدر الكتّاب الذين أعادوا للكلمة العربية نقاءها وصفاءها، وردّوا إليها منزلتها ومكانتها، بعدما مرّت عليها عهود طويلة مظلمة من ليالي الانتداب والاستعمار الشديدة السواد. «جفنهُ علَّم الغزلْ.. ومن العلم ما قتلْ/ فحرقنا نفوسنا.. في جحيم من القبلْ/ ونشدنا ولم نزل.. حلم الحب والشباب/ حلم الزهر والندى.. حلم اللهو والشراب/ هاتها من يد الرضى.. جرعةً تبعث الجنون/ كيف يشكو من الظما.. من له هذه العيون». الشاعرية فطرية لدى الإنسان، والأخطل الصغير مفطور على الشعر، فهل كان للبيئة التي نشأ فيها تأثير على شاعريته؟ المدقق الباحث في حياة وأدب شاعرنا، يدرك أنه بالنسبة إلى الأخطل الصغير كانت الموهبة هي الأساس، ولكن المطر الثقافي والمطر الاجتماعي غذّيا هذا الينبوع كي لا ينضب، والمهم أولًا أن يكون هناك موهبة، ثم يأتي الخوض في المجتمع والثقافة، فالأخطل كان رفيق الكتاب، وفي الوقت نفسه، خائض في المجتمع، كان حقيقة صوت الشعب الفقير، وفي الحرب العالمية الأولى كان صوت الحرية والتحرر، وفي الوقت نفسه كانت له ترانيم في الهوى والشباب. «وُلد الكأس والغرام على عهد.. أبي الكأس والغرام بشارة/ واستنامت له عذارى القوافي.. نومة البكر يوم عرس البكارة/ وتعرّى الجمال بين يديه.. وارتمى عنده وخلّى عذارة». اعتبر أدونيس ونزار قباني وأنسي الحاج وغيرهم، الأخطل الصغير الجسر الذهبي الذي مرّوا عليه كي يأمنوا حاضرهم، ولم يكن للبيئة تأثير على الأخطل، لأنها لم تكن تهتم بالثقافة، فكان شاعرنا نبتة نبتت منفردة. زار مصطفى أمين الأخطل الصغير في منزله الكائن آنذاك في منطقة الدورة، بغية إجراء حديث صحافي معه، وعندما رأى المناظر الطبيعية الخلاّبة، قال مصطفى أمين: "الآن عرفنا من أين تستوحي قصائدك"، فأجابه الأخطل: "ولكن يا أستاذ مصطفى صحيح هذه المناظر جميلة، إنما أجمل قصائدي نظمتها أثناء النوم، أو وأنا واقف على شرفة مكتبي في ساحة الشهداء في بيروت". «أتت هند تشكو إلى أمها.. فسبحان من جمع النيّرين/ فقالت لها إن هذا الضحى.. أتاني وقبلّني قبلتين/ وفرّ فلما رآني الدجى.. حباني من شعره خصلتين/ وذوّب من لونه سائلًا.. وكحّلني منه في المقلتين». الأخطل الصغير هو الذي اختار هذا اللقب، لأنه رأى نفسه شبيه الأخطل الكبير، إن لجهة الموقف من العالم العربي وإن لجهة الديانة، فكما كان الأخطل الكبير عربيًا مقربًا من أمير المؤمنين الأموي، كان الأخطل الصغير عربيًا ومقربًا من القادة العرب. عام 1916 كان الأخطل الصغير يملك جريدة البرق التي أسسها العام 1908، وأثناء جلوسه في مكتبه في أحد الأيام تسلّم ورقة صغيرة من صديقه الكاتب محمد كرو علي يقول فيها: "أترك كل شئ وأحرق ما لديك من أوراق ووثائق"، وقد كان القادة السياسيون العرب يجتمعون في مكاتب البرق، ففعل الأخطل وهرب إلى ريفون، ونزل عند صديقه الأباتي بستاني، واختبأ هناك باسم حنا فياض، ومن هناك بدأ يراسل أصدقاءه تحت اسم الأخطل الصغير. وقد كتب المؤرخ يوسف إبراهيم يزبك في "أوراق لبنانية"، أن جامعة الدول العربية وُلدت في مكاتب جريدة البرق، قبل عشرات السنين من ولادتها رسميًا. «هكذا فلتكن الغيد الحسان.. عفة في رقّة في أدب/ ذلك الكنز الذي لا يستهان.. أين من ذلك كنز الذهب/ وحلى كانت على صدر الزمان.. فاستباحتها نساء العرب». اشتهر الأخطل الصغير بأنه حرّر اللغة العربية من القواميس والمعاجم، كي تكون بمتناول الجميع، وحرص على أن تكون كلمته بسيطة وضوئية، واعتبر أن ممارسته الصحافة لعبت دورًا مهمًا في تنقية شعره، فالافتتاحيات التي كتبها جعلته يبتعد عن الغلاظة اللغوية. في نثر شاعرنا شعر، هناك مقالات سياسية لا تخلو من الشعر والشاعرية، وحول نغمية شعر الأخطل هناك قصة تقول أن أحد الصحافيين سأل الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب لمن لحّنت من الشعراء؟ فعدد أسماء: أحمد رامي، وأحمد شوقي وغيرهما، ولم يذكر اسم الأخطل فتعجّب الصحافي، وقال: لماذا لم تذكر الأخطل الصغير وقد لحنت له أكثر من قصيدة؟ أجابه عبد الوهاب: لم ألحّن للأخطل لأن قصائده جاءتني ملحنة، وأنا أديتها فقط. أما قصيدة "يا ورد مين يشتريك" فلها قصة أيضاً، فقد زار عبد الوهاب الأخطل وطلب منه قصيدة باللهجة العامية لتتماشى مع متطلبات السوق، فرفض الأخطل بحجة أنه شاعر كلاسيكي، ولكن عبد الوهاب استفزه، وقال: هل أحمد شوقي أحسن منك؟ أجابه الأخطل: ليس أحسن مني، ولكن أنا لا أعرف، وإذا أردت سننظم قصيدة باللهجة العامية المصرية معًا، شرط أن تكون قريبة من اللغة الفصحى، فجلسا قرب بركة في باحة المنزل وأخذوا بنظم القصيدة، وبعد قليل هدر الأخطل وقال: «شقّت جيوب الغزل.. وانبحّ صوت القبل/ على الشفاه التي.. تشرب من مهجتي».