فى فجر يوم 23 يوليو 1952، دوى صوت البيان الأول للثورة عبر إذاعة القاهرة، معلنا بداية حقبة جديدة أنهت عقودًا من الحكم الملكى فى مصر، وفتح الطريق أمام التخلص من الاستعمار البغيض. قاد الضباط الأحرار، وعلى رأسهم اللواء محمد نجيب والزعيم جمال عبد الناصر، ثورة غيرت مسار الوطن سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا، وكانت لها تداعيات امتدت خارج حدود مصر لتُلهم شعوبًا كثيرة فى العالم العربى وإفريقيا. ورغم مرور 73 عامًا على هذا الحدث الكبير، إلا أننى على ثقة بأنه لم يفصح بعد عن كل أسراره، ولم نستطع إلى اليوم أن نسبر أغوار تلك الثورة بما يليق بها وبما أحدثته من تغيير يتجاوز حدود الدولة المصرية، ويمتد إلى آفاقٍ إقليمية وعالمية واسعة. بالتأكيد لن تجد حدثًا أو شخصًا فى التاريخ محل إجماع، فما بالنا بحدث هائل التأثير عميق التداعيات بحجم ثورة 23 يوليو 1952، لكن أيضًا قد لا تجد حدثًا محل خلاف ونقاش وجدل لا يهدأ رغم مرور كل هذه السنوات على وقوعه مثل ثورة يوليو. والأزمة الحقيقية التى يعانيها كل من يحاول أن يستقى الحقيقة أو يقرأ رأيًا موضوعيًا - ولا أقول محايدًا - عن تلك الثورة أنه سيُواجه بطوفان من الكتابات الشخصية الانطباعية التى تعكس وجهة نظر كاتبها أكثر بكثير من السعى وراء معالجة علمية تاريخية لهذا الحدث الفارق. ■■■ فى معظم الكتابات المنتشرة عن ثورة 23 يوليو ستجد حديثًا حديًا ينحاز للون واحد، إما أبيض أو أسود، صراع بين شياطين وملائكة، أو طيبين وأشرار، محاولة لتقديم الحدث بطريقة الأعمال الدرامية ومباريات كرة القدم بين قطبين تحتدم بينهما المنافسة. والحقيقة أن هذا أخطر إن لم يكن أسوأ منهج يمكن التعامل به مع أحداث التاريخ، فهذا المنهج لا يقود إلى معرفة بل إلى تشتيت الوعي، ولا يُفضى إلى استفادة من دروس الماضي، بل يؤدى إلى تكرار الأخطاء! نعم، المذكرات الشخصية مهمة، وشهادات أبطال الحدث ضرورية، وتوثيق الكتابات التى عايشت المنعطفات المهمة لثورة يوليو لا غنى عنه، لكن كل ذلك لن يؤدى إلى كتابة تاريخية علمية موضوعية عن الحدث الذى لا يزال حيا فى وجداننا، حاضرا فى ذاكرتنا، ببساطة لأنه لا يزال يؤثر على حياتنا. ■■■ تاريخ الشعوب ليس مراحل منفصلة، ولا يعيش الناس حياتهم بطريقة فصول الكتب التى يجب أن تنتهى عند نقطة أو مرحلة زمنية محددة، فالتاريخ أحداث متلاحقة وتأثيرات متداخلة، ومن القسوة والخطأ أن نحكم على ثورة يوليو برؤيتنا اليوم فى 2025، بل ينبغى أن نفهم السياق الزمانى والسياسى والاقتصادى والاجتماعى والدولى الذى أسفر عن هذا الحدث، وأن نتمهل فى إصدار الأحكام المطلقة بمدى صواب أو خطأ قرار هنا أو تصرف هناك. التاريخ ينبغى ألا يخضع لعقلية «الألتراس» البعض يدافع حتى الموت، والفريق الآخر ينتقد بنفس الدرجة من الحماس، حتى الموت أيضًا!! وهنا تأتى أهمية المعلومات التى يمكن أن توفرها أجهزة ومؤسسات الدولة لإعادة قراءة ثورة يوليو بمنظور عصرها، والوثائق التى يمكن أن تتاح حول قرارات ومسارات تلك الثورة الفارقة فى عمر الوطن. وأعرف أن هناك جهودًا علمية بُذلت فى إطار التأريخ لثورة يوليو، لكنها ظلت جهودًا متناثرة لا يجمعها رابط ولا يضمها سياق شامل، فضلا عما واجهته تلك المحاولات من صعوبات للحصول على الوثائق التى يمكن أن تقدم رواية موضوعية عن الثورة وقراراتها. وطبعًا لا أعنى بالثورة لحظة الانفجار والفترة الأولى من أحداثها، بل مسار تلك الثورة عبر عقود متعاقبة، فالتأميم، ومجانية التعليم، والقوانين الاشتراكية، وبناء صناعة وطنية، وعدم الانحياز، وحرب اليمن ونكسة 1967، وقوانين إيجارات المساكن القديمة، وصناعة السينما والمسرح، وتأميم الصحافة، كلها بعض نتاج الثورة، وغيرها كثير مما يضيق المجال لسرده. ■■■ من حقنا، وربما من حظنا أن أجيال اليوم ليست لديها تلك المواقف المتشنجة من الماضي، ولا التعصب الذى يعمى العيون عن رؤية الحقائق، ولعلها تكون مناسبة للفهم والدرس من أجل بناء وعى حقيقى بتاريخنا، وقد تكون تلك الجهود هدية الدولة المصرية لثورة 23 يوليو فى اليوبيل الماسى لها بعد عامين. هذه دعوة لتشكيل لجنة علمية يمكن أن ترعاها واحدة من مؤسسات الدولة، وأن يكون من حقها الإطلاع على جميع الوثائق المتعلقة بأحداث الثورة وشخصياتها المحورية فى حقبة زمنية مختلفة، وأن يُنشر هذا الجهد فى موسوعة مصرية متكاملة يمكن أن تمثل وثيقة وطنية تعتمد عليها الأجيال فى فهم ماضيها وتأمل دروسه المُستفادة بموضوعية ووعى ودون انحيازاتٍ شخصية. كل عام ومصر بخير .. شعبها صانع التاريخ.. وتاريخها ملئ بالصفحات التى تستحق أن تُروى، وثورة يوليو حية فى الوجدان والذاكرة الوطنية.