«المجلس الأعلى للثقافة.. العقل المخطط للسياسة الثقافية فى مصر» هذا التعريف، الذى نجده على الموقع الإلكترونى للمجلس، يلخص الغاية الأسمى لوجوده، تاريخيًا، تحول المجلس من «المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب» إلى مسماه الحالى عام 1980، ولم يقتصر هذا التحول على تغيير الاسم فحسب، بل ترافق مع تطور جوهرى فى الدور والأهداف فالموقع يذكر أنه أصبح: «مركز إشعاع للثقافة والفكر على المستوى المصرى والعربى، وقلعة من قلاع التنوير والاستنارة، من خلال المؤتمرات والندوات التى ينظمها ويشارك فيها لفيف من المفكرين والمثقفين العرب، والتى أصبحت مناسبة للتفاعل الثقافى على المستوى العربى، فضلًا عن مشاركة بعض أبرز الباحثين فى المؤسسات الأكاديمية فى العالم شرقه وغربه فى أنشطة المجلس». نتذكر جيدًا تلك الفترة عندما كان المجلس يُعبّر بشكل واقعى عن كونه هيئة ثقافية ذات وضع استثنائى لم يكن يمثل العقل المصرى فقط، بل تجاوز دوره هذا ليتطلع إلى المستوى العربى والعالمى ليعمل كنقطة التقاء تثرى الواقع المحلى، وتربط ما بين المراكز الثقافية وبعضها. إنما ولأسباب كثيرة ومتداخلة، تراجع دور المجلس حتى كاد أن يختفى على هذا الأساس، يمكن تفهم الجدل الذى اندلع بداية من منتصف الأسبوع الماضى، عقب صدور قرار تشكيل «المجلس الأعلى» وما صاحبه من مناقشات واسعة بين الفاعلين الثقافيين والمتلقين على مواقع التواصل الاجتماعى الغالبية لم تتقبل القرار، مستندة بشكل أساسى إلى أعمار أعضاء المجلس وعدم تناسبها، وفق المناقشات، مع دور المجلس الأعلى للثقافة ومهمته. المسألة المبدئية التى أثارت النقاش الثقافى حول قرار تشكيل المجلس الأعلى للثقافة تنطلق من سؤال أساسى: ما وظيفة المجلس الأعلى للثقافة وما قدرة الأعضاء المختارين على أدائها؟ قبل أن يتفرع النقاش إلى الأفكار والسياسات، وقدرة الأعضاء على تطبيقها، والإيجابى فى هذا النقاش أنه يعى الدور الحيوى للمجلس الأعلى وللثقافة المصرية ويسعى لتصحيح ما يراه من مسارات خاطئة. من الضرورى هنا الانطلاق من التقدير الواجب للأسماء المختارة، والتى نجلّها من خلال مجالات برعوا فيها. لكن النقاش هنا يتجاوز الأسماء ساعيًا إلى فكرة عامة تضع يدها على أداء عام للوزارة ترى أنه منفصل عن الواقع الثقافى، وفى المقابل فإن الوزارة، تفضل البقاء فى أفكار أزمنة بديلة ينتمى إليها الأعضاء المختارون، ومدارس واتجاهات يمثلونها. جوهر مشكلة الاختيار يتمثل فى عدم مراعاته للنسبة التى يفترض فيها العدالة بين الأفكار القديمة والأفكار الحديثة، والحداثة هنا تعنى اللحظة الراهنة بكل ما تضمه من تفاصيل مربكة، وعنف مبالغ فى رمزيته، وتغيرات تاريخية. هذا ما يقودنا إلى ما حفز هذه الاعتراضات حول المجلس الأعلى للثقافة. هل حقًا ثمة عائق أمام الأسماء المختارة فى تأدية مهامها؟ فى النهاية، هذا ليس عملًا جسديًا، بل نشاط فكرى لا يستلزم عمرًا معينًا لأدائه والأعضاء المختارون قادرون على ممارسة دورهم بما لديهم من سابق التجارب الإبداعية والفكرية والخبرات العملية لكن هذا لا يبدو كافيًا، لأنه سيكون عليهم، إلى جانب خبراتهم الخاصة وحيثياتهم التى لا خلاف عليها، بناء معرفة بالواقع الذى يتوجه إليه مجلسهم (عقل الثقافة) وهذا يعنى المعرفة الكاملة بالحياة الثقافية المصرية الآن: الأسماء والاتجاهات والأفكار الجديدة، والمشاكل الخانقة التى تعوق الفعل الثقافى المصرى عن التكون كفعل مشهدى عام وهذه المعرفة لا علاقة لها بخبرات إبداعية أو وظيفية لأنها تتكون وفق معايشة التجارب ومتابعة تكونها. تتنوع أسباب ومنطق الاعتراضات إلا أنه يمكن تلخيصها بأنها تستند بالأساس إلى المصطلح القانونى: «العوار». فأحد مسوغات الاختيار لأعضاء أى هيئة عامة: القدرة على أداء المهام التى نص عليها قرار إنشاء الهيئة المعنية ومن المبادئ القانونية أن الاختيار إذا شابه شك ما بسبب المقدرة على تنفيذ المهام، فإننا هنا أمام أحد أشكال العوار القانوني، مما يعنى الأحقية فى الطعن على القرار، وهو الإجراء الذى قام به المثقفون عبر تفنيد قرار تشكيل المجلس الأعلى للثقافة وبيان عدم منطقيته. مشكلة الاختيارات الواردة فى القرار لا تتعلق فقط بأداء المجلس وقدرات الأعضاء ومدى استجابتهم للواقع ومتطلباته وبالتالى العمل على صياغة عقل الثقافة المصرية، لكن الجانب السلبى فى القرار أنه يعمق حالة انفصال سائدة منذ سنوات بين الوزارة وهيئاتها من ناحية، والفعل الثقافى على الأرض من ناحية أخرى. لا أظن أنه سيكون من الضرورى هنا التأريخ لهذا الانفصال أو لأسبابه المتعددة، فالمحصلة أن الأداء الوزارى يواصل النأى بنفسه عن لحظته الراهنة. ومن أمثلة هذا الغياب: الفعاليات الثقافية القليلة والغارقة فى أشكال ومعالجات تقليدية لا تستحدث. غياب خطة لدعم الثقافة فى المحافظات والعمل على إبرازها (ما زال ملف قصور وبيوت الثقافة بلا تحرك فاعل). جمود العمل على إيجاد ودعم سياسة نشر تغطى الاهتمامات المتزايدة من قطاعات مختلفة. جمود استراتيجيات نشر الثقافة المصرية فى الخارج، اللهم إلا فى معارض يحضرها الموظفون الرسميون ويغيب عنها الأدباء والفنانون. فى هذا السياق من المهم الإشارة إلى السياق الأشمل الذى تنطلق منه نقاشات مماثلة: وضع استراتيجيات ثقافية فاعلة مكن دولًا من بناء صناعات فنية وثقافية عالية الربحية، سواء تمثل المردود فى جانبه المادى أو فى نشر الثقافات الوطنية (كوريا الجنوبية نموذجًا). هل أصبحت الثقافة المصرية أسيرة وراء أسوار المؤسسات الرسمية؟ لا علاقة مباشرة تربط بين التساؤل وبين قرار تشكيل المجلس الأعلى للثقافة، لكنه أصبح أقرب إلى حالة تؤكد وجودها مع كل قرار وإجراء تتخذه وزارة الثقافة وهيئاتها فبينما نتطلع إلى مشهد ثقافى مزدهر وممثل لجميع أطياف الإبداع، يرى الكثيرون أن إدارة هذا الملف الحيوى تشوبها تحديات جمة، أبرزها الانفصال المتزايد بين الرؤية الرسمية والواقع الثقافى الحى على الأرض.