في تقرير تحليلي لمجلة «فورين بوليسي» الأمريكية، كشفت عن كيف استطاعت بكين أن تحكم قبضتها على بحر الصينالجنوبي عبر الاقتصاد والتكنولوجيا، بمنطق القوة الصامتة والهيمنة الذكية. في تمرين استخباراتي يُعرف ب"التنبؤ العكسي"، رُسم سيناريو مستقبلي لعام 2035 يُظهر كيف أصبحت الصين قوة مهيمنة على بحر الصينالجنوبي دون صدام عسكري مباشر، ورغم التوترات، تسمح بكين للسفن التجارية بالعبور بحرية، بشرط أن تخضع للمراقبة التكنولوجية الصينية. لكن ما لا يُسمح به هو وجودٌ عسكري أجنبي غير مُرخّص، حيث تتولى البحرية الصينية وخفر السواحل مسؤولية تأمين الممرات بمساعدة شبكة ضخمة من الطائرات بدون طيار، والأقمار الصناعية، وأجهزة الاستشعار الذكية، في سيناريو يُقدَّم كتحذير جاد لصناع القرار في جنوب شرق آسيا والمملكة المتحدة. اقرأ أيضًا| تحليل| من يربح في معركة العقوبات.. روسياوالصين أم السوق الأمريكي؟ تقنية «التنبؤ العكسي» اُستخدمت تقنية "التنبؤ العكسي" – وهي أداة تحليلية تعتمدها وكالات استخباراتية وعسكرية – لمحاولة فهم كيف يُمكن لصين 2035 أن تصبح القائد الفعلي في مياه آسيا، ولا يُحاول هذا المنهج التنبؤ بالمستقبل بقدر ما يعمل على تشريح العوامل التي قد تُوصل بكين إليه، مثل الهيمنة الاقتصادية، والتحكم في البنية التحتية الرقمية، واستغلال نقاط ضعف التحالفات المنافسة. وفقًا للمجلة الأمريكية ذاتها، الأسلوب الصيني في بحر الصينالجنوبي يعتمد على ما يُعرف ب"تقطيع السلامي"؛ وهو التوسع التدريجي في النفوذ من خلال اختبارات صغيرة ومُتكررة لا تُثير ردود فعل عنيفة من الخصوم، وتُمارس بكين هذه الاستراتيجية ضد 6 دول تدّعي السيادة على أجزاء من البحر، وهم: بروناي، وإندونيسيا، وماليزيا، والفلبين، وتايوان، وفيتنام، وفي ذات الوقت، تستهدف تقويض نفوذ التحالفات الغربية، خصوصًا شبكة العلاقات الأمنية التي تقودها الولاياتالمتحدة في المنطقة. «الاستثمار سلاح أكثر فتكًا».. القوة الناعمة الصينية تحظى الصين بقبضة اقتصادية قوية على جنوب شرق آسيا؛ فهي أكبر شريك تجاري للمنطقة ومصدر رئيسي للبنية التحتية. تملك بكين حصصًا في شركات تقنية كبرى مثل توكوبيديا ولازادا، وتضخ استثمارات ضخمة في مشروعات الطاقة الرقمية والمتجددة، وهو ما يجعل دول المنطقة في حالة "اعتماد متبادل" يحدّ من قدرتها على مقاومة التمدد البحري الصيني. ورغم تحذيرات محللين بريطانيين بشأن مشاكل الصين البنيوية كشيخوخة السكان أو تراكم الديون، فإن دول جنوب شرق آسيا ترى أن الصين حتى مع تباطؤ النمو ستظل شريكًا لا يُمكن التفريط فيه، خاصة في ظل فشل الغرب في تقديم بدائل اقتصادية وتقنية كافية، بحسب مجلة «فورين بوليسي» الأمريكية. مع تسارع وتيرة التغير المناخي، تواجه دول المنطقة تهديدات مثل ارتفاع منسوب البحر وزيادة الطلب على الطاقة. وقد استثمرت الصين مبكرًا في ريادة تقنيات الطاقة الخضراء، ما جعلها المزود الأول للألواح الشمسية، وتوربينات الرياح، والمركبات الكهربائية، وحتى بطاريات التخزين. وهذا الوضع يُعزز من اندماج هذه الدول في النظام التقني الصيني، ويجعل مقاومة ضغوط بكين البحرية أكثر تكلفة سياسيًا واقتصاديًا. اقرأ أيضًا| «واشنطن بوست» تبرز تصاعد التوترات بين الصين والفلبين واشنطن تراقب.. ولكن بدون ردع حقيقي رغم إعلان الولاياتالمتحدة منذ عام 2010 اهتمامها بحرية الملاحة في بحر الصينالجنوبي، فإن تحركها الفعلي كان محدودًا. ويرى الخُبراء أن استمرار بكين في التمدد سيتطلب ردًا أمريكيًا أكثر حزمًا، وإن كان أي تصعيد يحمل مخاطره. ومع عودة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، ازداد الارتباك حول استراتيجية واشنطن تجاه آسيا، خاصة بعد تعطّل بعض برامج التمويل المناخي الأمريكية في المنطقة. لا يدعو التقرير إلى التصادم المباشر مع الصين، بل يُوصي ببراغماتية مدروسة، حيث يُمكن لدول جنوب شرق آسيا تعزيز قدراتها على الردع البحري عبر: - توسيع قدرات المراقبة البحرية بالتعاون مع شركاء مثل أستراليا، واليابان، وكوريا الجنوبية، وبريطانيا، وفرنسا. - تنويع الاقتصاد وسلاسل الإمداد بعيدًا عن الاعتماد المفرط على الصين. - جذب استثمارات أجنبية في التكنولوجيا النظيفة والطاقة والذكاء الاصطناعي من خارج الصين. - تعزيز التجارة البينية والإقليمية عبر اتفاقيات مثل الشراكة عبر المحيط الهادئ. ورغم صعوبة تقليص البصمة الاقتصادية الصينية بالكامل، فإن هذه الجهود قادرة على خلق توازن يُبطئ من تمدد النفوذ الصيني دون خلق صراع مباشر. من يحمي مياه آسيا؟ بحسب المجلة الأمريكية ذاتها، من المُثير أن يُبدي بعض خبراء القانون الدولي حيرتهم عند مواجهة هذه الاستراتيجيات الصينية التي لا تخرق القوانين صراحة، بل تُعيد تعريف "الوضع الطبيعي" تدريجيًا، ويرى التقرير أن التغيير في بحر الصينالجنوبي لن يتم عبر المحاكم، بل عبر سياسات واقعية تبني البدائل وتُدير الصراعات بذكاء جماعي طويل المدى. وفي تحليل لما سبق، يبدو أن الصين لا تسعى فقط إلى الهيمنة على بحر الصينالجنوبي، لكن لإعادة صياغة قواعد اللعبة الجيوسياسية في آسيا. وعلى غرار ذلك، إن لم تتحرك دول جنوب شرق آسيا بسرعة، بالشراكة مع قوى عالمية مستعدة، فقد تجد نفسها أمام واقع جديد من الصعب تغييره، لأن المعركة هذه المرة لا تُخاض بالأسواق، والشبكات، والخوارزميات، وليست بالمدافع...