فى وقتٍ تختلط فيه المأساة بالخذلان، ويشقّ صراخ الأطفال فى غزة صمت العالم، وتتعانق مجازر آلة الموت الإسرائيلية مع خيانةٍ ملطّخة بدم الأبرياء، وتتبعثر أشلاء الضحايا تحت الأنقاض لتكتب تاريخًا جديدًا من الألم، اختار وفدٌ ممن يسمون ب «أئمة ودعاة أن يُشهِروا انحيازهم للجلاد، ويسيروا فى طريق الخزى، ذهبوا مهرولين ليصافحوا رئيس الكيان الإسرائيلى، الذى وصف اللقاء بأنه «طريق لبناء الجسور والحوار والسلام»، ولا أدرى أيَّ جسور تُبنى فوق أنقاض غزة؟! وأيّ حوار يُجرى والأرض تئنّ تحت أقدام النازحين؟! وأيّ سلام يُرتجى والسماء تبكى على أطفالٍ ماتوا جوعًا تحت الحصار أو غرقًا تحت الركام؟! ليست هذه زيارةً عابرة، ولا خطأً بروتوكوليًّا، بل سقوطٌ أخلاقيٌّ مكتمل الأركان، مشهد كان صادمًا بكل ما تحمله الكلمة من معنى؛ عمائم بيضاء فوق رءوسٍ انحنت بملء إرادتها، ولمزيدٍ من الذل والمهانة، لم يجد الإمام الهولندى «يوسف مصيبح» حرجًا فى أن يشدو بالنشيد الوطنى للكيان المحتل باللغة العربية، بينما انحنى «حسن الشلغومي»، الإمام الفرنسى من أصل تونسى، ليُقبِّل يد وزيرٍ فى حكومة الاحتلال، فى أكثر مشاهد الزيارة إثارةً للاشمئزاز، قبلةٌ مهينة أشبه بالتوقيع على وثيقة خضوعٍ وإذلال، ولحظةٌ مجازية توازى الانفصال التام عن كل معانى الدين والكرامة والإنسانية. ولم يكن الصمت خيارًا لدى الأزهر الشريف -حامل لواء الضمير الإسلامي- الذى أصدر بيانًا شديد اللهجة أثلج صدورنا، أدان فيه هذه الزيارة، واصفًا من شاركوا فيها بأنهم فئةٌ ضالّة، عميت بصيرتهم عن معاناة الفلسطينيين، وانقطعت روابطهم عن كل معانى الإنسانية والدين. وأكّد الأزهر أن هؤلاء «المأجورين»، الذين اختاروا موائد الذل والمهانة، لا يُمثّلون الإسلام ولا المسلمين، بل يجسِّدون سقوطًا مدويًا فى وحل السياسة، وتورّطًا فى تزييف وعى الناس تحت لافتة «التعايش»، بينما تُسحق وتُباد مدنٌ بأكملها فى غزة. فى زمن الإبادة يا سادة.. تصبح كل ابتسامةٍ فى وجه المحتل، وكل يدٍ تُصافح يده الملطخة بالدماء، سقوطًا أخلاقيًا مدويًا، إنها لم تكن زيارةً من أجل الحوار والسلام، بل خنجرًا جديدًا فى خاصرة فلسطين، زيارة تكشف كيف يمكن لعمامةٍ أن تتحوّل إلى رايةٍ بيضاء فى حضرة القتلة السفّاحين، وكيف تُستبدل آيات الرحمة بخطب المهادنة والخنوع، وكيف تُباع القضايا بثمنٍ بخس، فى وقتٍ لا تزال فيه غزة تكتب تاريخها بأظافر الجوع والكرامة، وتُعلّم العالم كيف يكون الصمود فى زمن الانكسار.