كنت أبتسم من كلام أمى محاولا التهوين عليها فأنا فعلا لست من هواة الشعر الطويل. أبتسم كلما رأيت تلك الموضات العجيبة التى انتشرت بين الشباب فى قص الشعر. أتذكر والدى رحمه الله تعالى عندما كان يصطحبنى صباح كل جمعة عند صالون عمى عبد الحميد الحلاق فى شارع المحطة بالأقصر. لم يكن الرجل عمى فى الدم، ولكن هكذا كان يعلمنى أبى أن أى رجل هو عمى وأى سيدة هى خالتى حتى لو لم تكن تمت بأى صلة دم بأمى. بدأت زياراتى الأسبوعية لصالون عمى عبد الحميد منذ أن كنت فى السابعة من عمرى تقريباً. كان أبى صديقاً حميماً لكل من يتعامل معه ويعتبره بمثابة الأخ المقرب منه. لم كان يجيد التعامل مع أى شخص بدون أن يصادقه. يطلب منى قبل كل شيء أن ألقى التحية على الرجل أيا كان، يخاطبنى قائلاً: سلم يا هشام على عمك عبد الحميد..ألق التحية على عمك أبو عليان (الفكهانى).. قل صباح الخير لعمك شحتة (الجزار).. وهكذا.. ناهيك طبعا عن أصدقاء والدى وزملائه فى التربية والتعليم، حيث مجال عمله، فهذا عمك محمد حسن الهراس أستاذ اللغة الإنجليزية وهذا عمك صديق داميان مدير الثانوية العسكرية الذى أهدانى أول مصحف فى حياتى، وهذا عمك عبد الحميد حسن أحد أساطين اللغة العربية وعمك كمال جندى أستاذ الإنجليزى وعمك صبحى جبران أستاذ الإنجليزى أيضًا الذى لا يمر علينا عيد إلا وجاء ليعيد علينا حتى بعد وفاة أبى وحتى الآن. كل هؤلاء أعمامى وغيرهم ممن كانت تربطهم بوالدى علاقة أخوة حقيقية قبل أن تكون مجرد صداقة زمالة عمل أو جيرة. سلاح ذو حدين وعلى رغم أن عمل والدى كمدرس للغة الإنجليزية منحنى تميزا وسط كوكبة أخرى من الأساتذة الذين تتلمذوا على يدى والدى ورفاقه قبل أن يصبحوا مدرسين على جيلى من التلاميذ فى مرحلة الإعدادية والثانوية وكانوا يعاملوننى كأخ أصغر لهم قبل أن أكون ابنا لأستاذهم وأخوهم الأكبر الحاج أحمد مبارك، إلا أن تلك العلاقة المتميزة كانت تفرض عليً كثيرا من القيود حيث كانت كل حركة منى تحت المجهر حيث يريدوننى دائمًا متفوقًا فى الوقت الذى لم أكن من هؤلاء الراغبين فى التقدم للصفوف الأولى فى الدراسة والمذاكرة، حيث كانت كرة القدم تحتل كل اهتمامى ووقتى لاعبا ومتفرجًا، ولم يكن يتبق للمذاكرة سوى القليل من الوقت. لكن أساتذتى بارك الله فى أعمار من على قيد الحياة منهم ورحم الذين رحلوا إلى رحابه، لم يتخيلوا أن ابن الحاج أحمد مبارك يمكن أن يكون فى الصفوف الخلفية. فلم يكن يرضى رأفت حسان أن أكون الثانى فى ترتيب الفصل فى مادة الرياضيات حتى لو كان الأول هو فيثاغورس نفسه، ولا يقبل محمود عبد العزيز أن يتراجع مستواى فى الفيزياء عن ألبرت أينشتاين وإسحق نيوتن ويندهش على رشوان لو كان مستواى فى اللغة العربية أقل من سيبويه أو الأصمعى على أقل تقدير. وينزعج محمود سعد الدين لو اكتشف أنى لا أجيد التاريخ مثل ابن الأثير صاحب كتاب الكامل فى التاريخ، أما كمال يعقوب فسيجعل يومى صعباً لو نطقت اسم ماكبث بالسين وليس بالثاء، فهو يرى وجوب أن أكون خليفة شكسبير المنتظر فى عالم اللغة الإنجليزية وقواعدها التى لا أحب التقيد بها خاصة مسألة إخراج اللسان عند نطق الحروف اللثوية! هنا عرفت الصحافة فى صالون عمى عبد الحميد الحلاق وخلال زيارتى الأسبوعية لقص شعرى أنا ووالدى بدأت علاقتى الأولى بالصحافة والكتابة، ففى صالون الرجل تتناثر على ترابيزة تتوسط أنتريه الانتظار الجرائد الصباحية اليومية الثلاثة الأشهر، الأخبار والأهرام والجمهورية. وكثير من المجلات الأسبوعية خاصة صباح الخير التى كان أبى يقتنيها اسبوعياً ويحرص على قراءتها كلها قبل أن يتركها لى أتصفحها. ورغم أن صالون الرجل لم يكن مزدحما بالزبائن خاصة فى ذلك الوقت المبكر من الصباح إلا أن والدى وعمى عبد الحميد كانا يتحدثان عن كل شيء.. فسمعت منهما الكثير عن حرب الاستنزاف مثلا وهل السادات الذى كان قد تولى الحكم منذ أيام قليلة جاهزا لمحاربة العدو الإسرائيلى أم لا. كان الرجلان يتحدثان بكثير من الكلمات المبهمة بالنسبة لى فى ذلك الوقت فكنت ألجأ للصحف والمجلات أقرأ منها ما تيسر لى فهمه وكانت البذرة الأولى لى فى ذلك العالم الذى بدأ بتعجبى من وجود نفس تلك النسخ من الصحف والمجلات فى بيتنا كل صباح. كنت أتعجب كيف يمكن وجود نسخ مكررة بها بنفس الكلام والصور والحروف. وما هو ذلك العالم العجيب المسمى بالصحافة؟! أفيق بعد ساعة أو أكثر من سرحانى مع الصحف والمجلات على صوت عمى عبد الحميد وهو ينفض الفوطة بقوة بعد أن ينتهى من الحلاقة لأبى ليطلب منى أن أتقدم لأجلس على الكرسى حتى يقوم بقص شعري. طبعا لم يكن هناك فى ذلك الوقت كثير من الفورم التى نسمع عنها الآن، بل كان الذى يفرق بين حلقة وأخرى هى درجة الحلاقة هل هى نمرة واحد أو اثنين أو بالموس أو زيرو. ولا أدرى لماذا كان أبى دائما رغم شعره الطويل الناعم يختار لى وله الحلاقة بدرجة نمرة واحد وهو ما كان يثير اعتراض أمى عليها رحمة الله عندما ترانى عند عودتى فتستقبلنا بعبارات الاعتراض موجهة الكلام بالطبع لزوجها: ليه عملت كده فى الواد يا حاج مش حرام شعره الجميل ده يتشال كل أسبوع؟ طب انت راجل كبير ومش بتحب الشعر مالك بقى ومال شعر ابنك!.. كنت أبتسم من كلام أمى محاولا التهوين عليها فأنا فعلا لست من هواة الشعر الطويل..ربما تأثرت بوالدى لكنى فعلا لم أكن أشعر بأى استياء من حلاقة شعرى نمرة واحد كل جمعة وهى النمرة التى تسبق الزيرو مباشرة. التشويه أصبح موضة! الطريف أن والدى مارس هوايته فى قص الشعر على تلاميذ مدرسة الضبعية الإعدادية التى تقع غرب الأقصر خلال فترة توليه نظارتها. فبعد أن يحذر أصحاب الشعر الطويل المنكوش مرة واثنتين وثلاثة دون استجابة، كان يصطحب معه كل يوم مقصًا كبيرًا ويمر فى طابور الصبح ليخرج كل طالب مبالغ فى تطويل شعره. لا يقوم أبى بالطبع بقص شعر الطالب كله بل يكتفى بقص جزء منه لتشويهه بحيث يجبر الطالب فور خروجه من المدرسة على الذهاب للحلاق لتسوية شعره. لم يكن أبى يعلم بالطبع أن ذلك الشعر المشوه سيصبح موضة فى يوم من الأيام، يلتقطها نجوم الفن والرياضة من الغرب ثم يقلدها شبابنا بكل بلاهة، رغم ما فيها من قصات قبيحة وصبغات شعر لا تليق حتى بالنساء وليس بالرجال. قصات لا حصر لها تعاند الفطرة السليمة وتصر على استبدال الذى هو أدنى بالذى هو خير دون أن يسأل هؤلاء أنفسهم ما هى المتعة فى تلك «الكوشة» من الشعر المنكوش غير المهندم فغالبية الشباب هذه الأيام يتنافسون أيهم يشوه شعره أكثر من الآخر تحت مرأى ومسمع من الآباء والأمهات وغياب تربوى لدور المدرسة التى كانت زمان تجبر التلاميذ على الهندام وحسن المظهر وتعاقب من يخالف الذوق العام حتى يفيء إلى القواعد والأصول،وأتذكر كيف كان التفتيش علينا من قبل الناظر والمدرسين يتم يوميًا فى طوابير الصباح، على المظهر العام وخاصة الشعر والأظافر وكأننا فى كشف هيئة وكل هذا الانضباط ذهب مع الريح ولم يبق منه سوى ذكريات وتمنيات بأن يعود ولكن يبدو أن ذلك أصبح حلمًا بعيد المنال فقد غاب الذوق عن أشياء كثيرة فى المجتمع كيف لا وقد غابت المدرسة التربوية التى تهتم بالتربية قبل التعليم مثلما كانت مدرسة عنوانها أحمد مبارك وصديق دميان وحسن الهراس وغيرهم ممن كانوا يدرسون حقيقة رسالة التعليم،،فهل نحلم بأن تعود تلك المدرسة من جديد؟ أتمنى ذلك بل وأتوقع حدوثه بعد أن وصلت دورة التدهور الأخلاقى فى المجتمع للقاع، والقاعدة تقول أن كل وصول للقاع يعقبه دورة نهوض جديدة عنوانها لا يصح إلا الصحيح ولو بعد حين. خلاصة الرحلة «ثق فى حلاقك، ولكن لا تنم على الكرسي»!