تشهد الساحة الاقتصادية العالمية تحولاً جذرياً نحو نظام متعدد الأقطاب، حيث تسعى القوى الاقتصادية الناشئة إلى كسر هيمنة الدولار الأمريكي على التجارة الدولية. وكان آخر محاولات كسر هيمنة الدولار تبنى مجموعة البريكس مبادرة التبادل التجاري بالعملات المحلية، وذلك فى اطار اتفاقيات فى ظل تنامى نشاط مجموعة البريكس و التى من المتوقع أن تساهم بنسبة 43% من نمو الاقتصاد العالمى خلال السنوات الخمس المقبلة، وتمثل هذه الشراكات بديلاً حقيقياً عن النظام المالى الغربى التقليدي، مما يمنح مصر مرونة أكبر فى تمويل مشروعاتها التنموية وتقليل الاعتماد على الدولار فى معاملاتها التجارية. ◄ الشراكات الاستراتيجية تقود نهضة مصر الصناعية ◄ الخبراء: الاتفاقيات مع الصينوروسيا «نافذة جديدة» وفي هذا السياق تُعد اتفاقيات العملات المحلية بين مصر وكل من الصينوروسيا خطوة استراتيجية محورية تهدف إلى تعزيز الاستقلالية الاقتصادية وفتح آفاق جديدة للنمو الصناعى والتجارى وتُظهر التجربة المصرية الناجحة فى التعامل بالعملات المحلية، والتى تجسدت احدى صورها فى اتفاقية سداد قرض محطة الضبعة النووية بالروبل الروسى بقيمة 25 مليار دولار، وإصدار سندات بقيمة 3.5 مليار يوان صينى فليس ذلك التوجه مجرد خيار نقدى بديل بل استراتيجية شاملة لبناء اقتصاد قوى ومتنوع قادر على مواجهة التحديات العالمية. ◄ تعدد الأقطاب قال د أحمد شوقي الخبير الاقتصادي أن العالم يتجه إلى ان يكون متعدد الأقطاب وتخلص من القطب الواحد حيث يستحوذ الدولار على 59% من احتياطيات البنوك المركزية فى العالم وبتعامل البنوك المركزية في مجموعة البريكس بالعملات المحلية تنخفض هيمنة الدولار على الاقتصاد العالمي في ظل تقلب اسعار الدولار وتعزيز البنوك المركزية احتياطياتها من الذهب وهو ما دفع الدول للتعامل بالعملات المحلية فى التجارة الدولية وبما يحقق من تعزيز عملات الدول ويزيد من التبادل التجاري في ضوء حجم التعاملات التجارية بين الدول. من جهته كشف الدكتور شريف فاروق خبير العلاقات الدولية، أن فهم أهمية التبادل بالعملات المحلية يتطلب الإشارة إلى أهداف تجمع بريكس حيث انشأ هذا التجمع ليضم الاقتصادات الناشئة ومن ضمنها مصر بهدف تعزيز التكامل الاقتصادي ومواصلة النمو فى مواجهة الهيمنة الغربية حيث يتوقع ان 43%، من نمو الاقتصاد العالمى خلال 5 سنوات القادمة سيأتى من دول البريكس فضلاً عن الهدف الأكثر أهمية وهو تشكيل نظام مالى موازى وإيجاد بديل حقيقى لصندوق النقد والبنك الدولى (نتائج اتفاقية بريتون وودز)، وإنهاء هيمنة الدولار الأمريكى على التجارة الدولية. ◄ عقاب اقتصادي وأضاف فاروق أن الولاياتالمتحدة تستخدم عملتها كأداة عقاب اقتصادى في الأزمات الدولية وخير دليل على ذلك العقوبات الأمريكية على روسيا الاتحادية فور اندلاع الحرب الروسية الاوكرانية 2022، وقيام الولاياتالمتحدة بتجميد أصول البنك المركزي الروسي بالخارج والذي يقدر بمليارات الدولارات ومنع البنوك الروسية من الاستفادة بنظام التحويلات المالية (سويفت) بهدف عزل روسيا عن النظام المالي العالمي وهو نظام أمريكى بامتياز، إلا أن الولاياتالمتحدة لا تقتصر فى استخدام تلك الأداة على منافسيها فقط، بل تمتد إلى حلفائها ايضا لارغامها على وقف التعاون بكافة أشكاله مع منافسيها من القوى الكبرى مثل روسياوالصين وفى بعض الأحيان الأخرى للتأثير على حرية واستقلال القرار السياسى للقوى الاقتصادية الناشئة لصالح قوى أخرى إقليميا. أضاف فاروق أن أبرز النجاحات التى حققتها مصر فى هذا المجال هو موافقة موسكو على استكمال سداد القرض الممنوح لبناء محطة الضبعة النووية بإجمالى 25 مليار دولار ليكون بالروبل الروسى مما يخفف من الأعباء المالية المفروضة لتدبير الدولار فضلاً عن التوسع فى التعاون مع العملاق الاقتصادى الصينى بالعملات المحلية و مبادلة الديون والتى كانت من أهم الموضوعات المطروحة خلال استقبال السيد الرئيس عبد الفتاح السيسى يوم الخميس 10 يوليو 2025 لرئيس مجلس الدولة الصينى لى تشيانج، والتى توجت بتوقيع وزيرة التخطيط والتنمية الإقتصادية ورئيس الوكالة الصينية للتعاون الإنمائى لعدة مذكرات تفاهم من ضمنها اتفاق لتنفيذ المرحلة الأولى لمبادلة الديون، والذى سيتيح لمصر إسقاط بعض الديون لدى الصين فى مقابل إقامة مشروعات تنموية خاصة فى مجالات التغير المناخي. ◄ تسوية المعاملات أضاف فاروق أن توقيع اتفاقية أخرى بين محافظى البنك المركزي المصري والصيني تهدف لاستخدام العملات المحلية فى تسوية المعاملات المالية والتجارية بين البلدين، علما بأنه سبق توقيع إتفاقية لتبادل العملات المحلية مع الصين بقيمة 2.6 مليار دولار فى عام 2016، ونجاح مصر فى إصدار سندات بقيمة 3.5 مليار يوان صينى لتصبح أول دول أفريقية تصدر مثل تلك السندات، وتساهم تلك الإتفاقيات فى زيادة توسع الاستثمارات الصينية وجذب شركاتها إلى مصر فى ظل إمكانية إقامة بعض المشروعات بالعملات المحلية مما يوفر مزيد من النمو الاقتصادى وإقامة مشروعات البنية التحتية الحديثة وزيادة فرص العمل بمصر. وأضاف فاروق أن توسع دول البريكس في التعامل بالعملات المحلية يزيد من الصادرات المصرية إلى دول التجمع وفى المقابل فإن أهم التحديات ستكون كيفية تحقيق التوازن فى عمليات التبادل وبما يحفظ الوزن النسبى للجنية المصرى فى مقابل تلك العملات وأيضا مواجهة الضغوط الأمريكية تجاه نمو دول التجمع والتى قد تفرض المزيد من الرسوم الجمركية الأمريكية للحد من تكاملهم الاقتصادى، إلا أنه سيكون سلاح ذا حدين و سيكون دافع الانضمام مزيدًا من الدول لتجمع بريكس كأحد حلول مواجهة تلك الرسوم . ◄ القوانين المحلية أشار د. سيد خضر الخبير الاقتصادي، إلى وجود عدة عقبات تحتاج إلى معالجة منها تحديات تشمل تقلبات أسعار الصرف للعملات المحلية وعدم الثقة فى بعض العملات المحلية ونقص البنية التحتية المالية اللازمة لدعم المدفوعات بالعملات المحلية، كما لفت إلى أن القوانين المحلية المتعلقة بالصرف الأجنبى قد تعيق التعامل بالعملات المحلية، بالإضافة إلى اختلاف السياسات النقدية بين الدول مما يسبب تحديات في التنسيق. وأشاد خضر بالتجربة المصرية في التعامل بالعملات المحلية مع دول البريكس حيث نجحت مصر فى تعزيز التعامل بالعملات المحلية مع كل من الصينوروسيا والإمارات وبعض الدول الأخرى، وأوضح أن مصر أبرمت اتفاقيات مع الصينوروسيا للتجارة بالعملات المحلية، مما يسهل المعاملات التجارية ويقلل من الاعتماد على الدولار الأمريكى حيث تم تطوير آليات دفع تتيح استخدام اليوان الصينى والروبل الروسي في التجارة، مما يسهل العمليات التجارية بين الدول. ◄ اقرأ أيضًا | سعر الدولار الأمريكي أمام الجنيه المصري اليوم السبت 12 يوليو 2025 ◄ خطوة استراتيجية وأكد اللواء رفيق رزق رئيس مجلس إدارة مصنع 200 سابقًا أن توقيع البنك المركزي المصري اتفاقيتين متزامنتين مع نظيريه فى الصينوروسيا استخدام العملات المحلية فى تسوية المعاملات المالية والتجارية تشكل خطوة استراتيجية تهدف إلى تعزيز الاستقلال المالى وتقوية دعائم الاقتصاد الوطني يأتي ذلك فى إطار توجه جديد لإعادة تشكيل المشهد الاقتصادى المصرى. وأوضح رزق أن هذه الخطوة أكثر من مجرد تسوية مالية بل مشروعاً إنتاجياً وتقنياً طموحاً يستهدف تحفيز الصناعة وتوطين التكنولوجيا وتحرير الاقتصاد من قيود التبعية التقليدية حيث يتمثل أحد المكاسب المباشرة للقطاع الصناعى فى خفض تكلفة الإنتاج الناتج عن التخلص من وسيط الدولار فى عمليات الاستيراد. ومع اعتماد الجنيه المصرى والروبل الروسى واليوان الصيني، يصبح بإمكان المصانع المصرية شراء المواد الخام والمعدات بأسعار أكثر استقراراً، مما يخفف الضغط المالى ويزيد من قدرة المنشآت على التوسع والتشغيل الكامل. وفي ظل تحديات السيولة التي واجهت الصناعة خلال السنوات الأخيرة أكد رزق أن التعامل بالعملات المحلية تحقق المرونة النقدية وهو عنصر محفز وهام لإنعاش المصانع الصغيرة والمتوسطة تحديداً، والتى غالباً ما تتأثر مباشرةً بتقلبات سعر الصرف وشروط التمويل التقليدية كما تتيح الاتفاقيتان لمصر الدخول فى شراكات صناعية أكثر تنوعاً، لا تقتصر على التجارة، بل تمتد إلى الإنتاج المشترك. فالصين تُعد شريكاً واعداً فى مجالات التصنيع الذكى والنسيج والإلكترونيات منخفضة التكلفة، بينما روسيا تُقدّم فرصاً للتعاون فى الصناعات الثقيلة مثل التعدين والأسمدة والآلات الزراعية. وأضاف رزق أن ما يُميز هذه الشراكات هو إمكانية تمويلها خارج النظام المالى الغربي، مما يمنح مصر هامشاً أوسع للمناورة الاقتصادية وتحريراً نسبياً من القيود البنكية التقليدية حيث تتضمن الاتفاقيتان بنوداً واضحة لتطوير البنية الرقمية للمؤسسات الصناعية المصرية من خلال ربط أنظمة الدفع الإلكترونية وتفعيل التعاون البنكى فى مجالات التحوّل الرقمى والمحاسبة الذكية و هذا الجانب لا ينعكس فقط على تسريع المعاملات، بل يُحفّز المصانع على تبنى نظم إدارية حديثة تقلل الهدر وترفع الكفاءة، خصوصاً فى القطاعات التى ما تزال تعتمد على إدارة تقليدية غير متصلة بالشبكات الرقمية. ◄ العقوبات الغربية وأوضح رزق انه وفى ظل العقوبات الغربية على روسيا وتوسع النفوذ الصينى فى الأسواق الدولية، تكتسب المنتجات المصرية فرصة دخول أسواق أقل تشبّعاً وأكثر حاجة لبدائل صناعية غير غربية. المنتجات الزراعية والغذائية والنسيجية تحديداً يُمكنها أن تجد طريقاً ميسراً إلى تلك الأسواق، خاصة إذا ما ارتبط ذلك بسياسات تحفيزية للصادرات الصناعية داخل مصر. واكد رزق ان تقدّم الاتفاقيتين مع الصينوروسيا لمصر أكثر من مجرد خيار نقدى بديل؛ إنهما إطار متكامل لبناء قاعدة صناعية حديثة، والانفتاح على شراكات غير نمطية فى مجالات الإنتاج والتكنولوجيا. وإذا تم تفعيل هذه الفرص برؤية مؤسسية وتخطيط استراتيجي، فإن الصناعة المصرية يمكنها أن تبدأ رحلة جديدة نحو السيادة والإبداع.