في يوم الجمعة 12 فبراير 1954، تحول قصر القبة، أحد رموز الملكية المصرية، إلى ساحة لبيع تاريخ أسرة محمد علي العريق، عندما تم تنظيم مزاد علني عالمي لبيع مقتنيات الملك فاروق. الحدث لم يكن فقط تفريغًا لمحتويات القصور، بل لحظة فارقة في تاريخ مصر الحديث، حملت أبعادًا سياسية واقتصادية ونفسية، وشكّلت مأساة ذات رمزية ثقيلة في ذاكرة المصريين. فالمزاد لم يبع ممتلكات فحسب، بل مزق صفحات من تاريخ طويل في لحظة واحدة، لتخرج ممتلكات ملك مصر إلى أيدي الأجانب، وتبقى الحسرة في قلوب من شهدوا انهيار المجد الملكي أمام أعينهم. ◄ بداية المزاد الكبير: من الملك إلى الجمهور كان يوم 12 فبراير 1954 بداية فريدة لمزاد علني ضخم أقيم داخل قصر القبة، حيث فتحت أبوابه ليستقبل الزوار والمشترين من مختلف أنحاء العالم، لاقتناء ما تبقى من تحف وساعات ومجوهرات ونفائس اقتناها الملك فاروق خلال فترة حكمه. افتتح البكباشي محمود يونس، المشرف العام على المزاد، الجلسة بجملة حملت دلالات سياسية واضحة: "باسم الله وباسم الجمهورية نفتتح هذا المزاد الذي تعرض فيه تحف اقتناها الملك من دم الشعب، وهي تباع اليوم ليعود ثمنها إلى صاحبه، الشعب". الحضور كان مزيجًا من رجال الصحافة، والمشترين الأجانب، وبعض المصريين الذين اكتفوا بالمشاهدة فقط، خشية اتهامهم بشراء "رموز الفساد الملكي". ◄ من الطوابع إلى التحف: بداية البيع المؤلم بدأ المزاد ببيع مجموعة طوابع بريدية نادرة، حرص «فاروق» على جمعها من دول مختلفة، شملت طوابع تعود إلى الفترة ما بين 1864 و1879، بعضها بيع بخمسة عشر جنيهًا، وآخرون وصلوا إلى 280 جنيهًا لمجموعة مكونة من أربعة طوابع متلاصقة. انتهت جولة الطوابع بحصيلة بلغت ستة آلاف جنيه، لتنتقل بعدها المطرقة إلى مقتنيات أخرى مثل العملات، والمجوهرات، والساعات، والعلب الموسيقية، والفضيات. وصفت شركة سوزبي العالمية المتخصصة، التي شاركت في تنظيم المزاد إلى جانب شركة «هامر»، هذا الحدث بأنه أكبر مزاد حضرته على الإطلاق، واستغرق الإعداد له شهورًا طويلة، شملت تصوير وتصنيف المقتنيات، وإرسال كتيبات إلى المهتمين في مختلف أنحاء العالم. لكن ما لفت الانتباه بشدة هو عزوف المصريين عن الشراء، إما خشية من ربطهم بالفساد، أو لأسباب مالية، أو لرفضهم اقتناء ما اعتبروه «أدلة على الاستبداد والترف». ◄ مفارقة مؤلمة: فاروق في المزاد... والحجز في إيطاليا من يطالع جريدة الأهرام بتاريخ 13 فبراير 1954، سيجد أن خبر المزاد يتصدر الصفحة الأولى، لكن في الزاوية السفلية اليمنى يظهر خبر صغير يكشف عن مفارقة ساخرة: «الحكم على فاروق بدفع ثلاثة ملايين ليرة إيطالية ثمنًا لملابس داخلية». اقرأ أيضا| أصل الحكاية| موكب الملك فاروق الأول يخترق طنطا وسط احتفال تاريخي وفي التفاصيل، أن محامي شركة إيطالية زار قصر فاروق بإيطاليا لتحصيل دين مقابل ملابس داخلية اشتراها ولم يدفع ثمنها، وعند محاولة الحجز على ممتلكاته، تبيّن أن كل شيء باسم سكرتيره الخاص. ◄ مزادات سابقة: الطيور والخمور والسيارات لم يكن مزاد قصر القبة هو الأول، بل سبقه ثلاثة مزادات أخرى في عام 1953: 1. الطيور والدواجن في قصر المنتزه: وكان زبائن المزاد من المصريين، وبيعت دجاجة من نوع «اللجهورن» بجنيه كامل! 2. الخمور الملكية: شملت 7370 زجاجة، أغلاها زجاجة ويسكي بتوقيع فاروق بيعت ب270 قرشًا، وحضر المزاد خواجات ووكلاء كازينوهات. 3. السيارات الملكية: شملت 46 سيارة، منها كاديلاك بيعت ب780 جنيهًا، وأخرى للملكة نازلي بيعت ب455 جنيهًا. وقدمت شقيقات فاروق مذكرة تطالب بوقف البيع بحجة ملكيتهن للسيارات. ◄ الدولة تبرر: "هل نعيش على أنقاض التاريخ؟" في تحقيق لمجلة «آخر ساعة» بتاريخ 17 فبراير 1954 بعنوان «فاروق في المزاد»، نقلت المجلة عن مسؤول لم يُذكر اسمه، قوله: «هل كان المطلوب أن نحتفظ بمئات السيارات والتحف القديمة؟ هل نخصص ميزانية لحفظ تاريخ الملك؟ نحن الآن نبني مستقبلًا جديدًا». وأكد أن المزاد الدولي الحالي كان مربحًا أكثر من المزادات المحلية، وشكّل فرصة لدخول أموال جديدة إلى الدولة. اختلفت الآراء بين من رأى في المزاد مأساة وطنية وبيعًا لتاريخ مصر الحديث، وبين من اعتبره تطهيرًا للفساد وعودة لما اقتناه الملك من "دم الشعب". لكن الثابت أن المزاد شكّل لحظة صادمة في ضمير المصريين، وهم يشاهدون كنوزًا لا تُقدّر بثمن تنتقل إلى أيدي الأجانب، بينما هم عاجزون عن اقتنائها أو حتى الدفاع عنها. لم يكن «مزاد فاروق» مجرد بيع لممتلكات ملك سابق، بل كان تجسيدًا لسقوط مرحلة تاريخية كاملة، ورمزًا لبدء مرحلة جديدة تحاول فيها مصر التحرر من إرث الملكية. لكنّ الحقيقة المُرّة، أن بعض المجد، مهما بلغت أخطاؤه، لا يُشترى ولا يُباع... وأن التاريخ، حتى لو حاولنا تصفيته، يبقى حيًّا في ذاكرة الشعوب.