وسط ضجيج المدينة وتحول ملامحها العصرية، تعود نافورة الأزبكية لتقف شامخة من جديد كقطعة نادرة من تراث القاهرة الخديوية. في مشهد يمزج بين الماضي والحاضر، تتابع لجنة أثرية تابعة لوزارة السياحة والآثار، أعمال ترميم هذه النافورة التاريخية الواقعة داخل حديقة الأزبكية، كجزء من مشروع متكامل لإعادة تأهيل قلب العاصمة، بالشراكة مع وزارة الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية. هذه الخطوة ليست مجرد مشروع ترميم، بل محاولة صادقة لإحياء ذاكرة مدينة عريقة، وتأكيد على أن تراثنا ليس للماضي فقط، بل للمستقبل أيضًا. ◄ نافورة الأزبكية.. سطور من التاريخ تعود للحياة تقع نافورة الأزبكية داخل واحدة من أقدم الحدائق العامة في مصر، حديقة الأزبكية، التي أُنشئت في عهد الخديو إسماعيل ضمن خطته الطموحة لتحويل القاهرة إلى "باريس الشرق". وقد أنشئت النافورة ضمن عناصر التجميل المعماري التي ميّزت عصره، وجاءت كرمز حضاري وثقافي يعكس الذوق المعماري الأوروبي الممزوج بروح القاهرة الإسلامية. بدأت وزارة السياحة والآثار، بالتعاون مع وزارة الإسكان، أعمال ترميم النافورة في إطار خطة تطوير شاملة تستهدف تحسين الصورة البصرية للقاهرة الخديوية. وقد شملت الأعمال تنظيف النافورة من التكلسات والترسبات، وإعادة تثبيت الأجزاء المفككة، وترميم العناصر الزخرفية الدقيقة المصنوعة من الرخام والحجر. وأكدت اللجنة الأثرية المشرفة على المشروع ضرورة الالتزام بأدق معايير الترميم، مع توثيق كل مرحلة من مراحل العمل لضمان الحفاظ على أصالة النافورة، وهو ما يمثل تحديًا حقيقيًا في ظل تآكل بعض أجزائها بفعل الزمن والإهمال. ◄ حديقة الأزبكية: قلب أخضر ينبض في وسط المدينة لا يمكن الحديث عن نافورة الأزبكية دون التوقف أمام الحديقة التي تحتضنها. حديقة الأزبكية، التي كانت يوماً ما ساحة للنخبة وأرضاً للمسرح والفن والثقافة، أُنشئت في القرن التاسع عشر كأول حديقة عامة على النمط الأوروبي، وكانت مركزاً للاحتفالات الرسمية والأنشطة الثقافية. وبعد عقود من الإهمال، بدأت وزارة الإسكان تنفيذ خطة شاملة لإعادة إحياء الحديقة، تتضمن ترميم الأسوار والممرات، وإعادة تأهيل المباني التاريخية المحيطة بها، وتطوير أكشاك الكتب بما يتناسب مع الطابع الجمالي للموقع، حفاظًا على دور الحديقة كمركز للثقافة والفكر في قلب العاصمة. ◄ القاهرة الخديوية.. مشروع استرداد الهوية يمثل مشروع ترميم نافورة الأزبكية جزءًا من خطة طموحة لإحياء معالم القاهرة الخديوية، تلك المنطقة التي شيدها الخديو إسماعيل لتكون نموذجًا للتمدن والحضارة. وتشمل هذه الخطة ترميم واجهات المباني التراثية، وتحديث البنية التحتية، وتحسين الإضاءة والفراغات العامة، لتعود القاهرة إلى سابق عهدها مدينة ساحرة تحكي قصصًا لا تنتهي من الجمال والتاريخ. اقرأ أيضا| مستشار الرئيس ومحافظ القاهرة يتفقدان أعمال تطوير القاهرة الخديوية يُشرف على تنفيذ المشروع كل من وزارة السياحة والآثار ووزارة الإسكان، في تنسيق يعكس رؤية الدولة في توحيد الجهود للحفاظ على التراث. حيث تتولى وزارة الإسكان الجانب الإنشائي والتخطيطي، بينما تشرف وزارة السياحة والآثار على النواحي الفنية والتاريخية، مما يضمن تنفيذًا دقيقًا ومتوازنًا يحترم القيمة التاريخية للموقع دون الإخلال بالمعايير الحديثة للتطوير الحضري. ◄ تحديات الترميم: بين الحاضر وعبء الماضي لم يكن الطريق إلى ترميم النافورة مفروشًا بالورود، بل واجه القائمون على المشروع العديد من التحديات، منها ضعف البنية التحتية المحيطة، وتدهور بعض الخامات الأصلية، فضلاً عن ضرورة التعامل بحذر مع العناصر المعمارية الحساسة. كما تطلب الأمر دراسة تاريخية موسعة لفهم مراحل تطور النافورة عبر الزمن قبل الشروع في أعمال الترميم. يرى كثير من المهتمين بالشأن التراثي أن إعادة إحياء حديقة الأزبكية سيعيد لها مكانتها القديمة كمركز للثقافة والفنون. فقد كانت الحديقة تضم مسرح الأزبكية الشهير الذي شهد انطلاقة نجوم المسرح المصري، وكانت ساحة للكتب والعروض الثقافية، ومع تطوير الأكشاك المُرخصة واعتماد نموذج موحد لها، تعود الحديقة لتؤدي دورها التنويري من جديد. ◄ شهادات من قلب الحدث صرّح أحد أعضاء اللجنة الأثرية قائلًا: "نعمل على إعادة الحياة لقطعة من الذاكرة المصرية. النافورة ليست مجرد عنصر جمالي، بل رمزٌ لفترة زاخرة بالنهضة الفنية والمعمارية. نهدف إلى أن يشعر الزائر وكأنه يسير في القاهرة القديمة بعبقها وتاريخها." وأضاف مهندس من وزارة الإسكان: "التحدي الأكبر هو الموازنة بين الحفاظ على الروح الأصلية للنافورة، وبين استخدام تقنيات حديثة لضمان استدامة الأعمال لفترات طويلة. نحن نعيد إحياء تراث، لا مجرد ترميم حجر." ◄ ما بعد الترميم: خطوات قادمة يتوقع أن ينتهي مشروع الترميم الكامل خلال الشهور القليلة المقبلة، يتبعها افتتاح رسمي يتضمن عروضًا فنية وثقافية داخل الحديقة، بهدف إعادة الدماء إلى شرايين القاهرة الخديوية. كما يجري العمل حاليًا على إعداد خطة متكاملة لإدارة الموقع وصيانته المستمرة، منعًا لتكرار سيناريو الإهمال. يرى باحثون في التاريخ والعمارة أن مشروع ترميم نافورة الأزبكية يحمل قيمة رمزية كبيرة، ليس فقط لأنه يُعيد الحياة إلى معلم أثري مميز، بل لأنه يفتح الباب أمام مشاريع مشابهة قد تشمل نافورات وقصور وأسواقًا تاريخية اندثرت مع الزمن، وهو ما يُسهم في تشكيل ذاكرة بصرية جديدة للمدينة تعتمد على ماضيها العريق. ◄ دعوة لزيارة الموقع بعد الترميم من المنتظر أن تتحول حديقة الأزبكية، بعد استكمال أعمال التطوير، إلى نقطة جذب سياحي وثقافي هامة، حيث سيمكن للزوار من جميع الأعمار مشاهدة النافورة التاريخية بأدق تفاصيلها، والتمتع بمشهد طبيعي نادر في قلب العاصمة، وقراءة كتب من الأكشاك المُرخصة التي ستزين سور الحديقة بشكل جمالي منظم. إن ما يجري من ترميم لنافورة الأزبكية لا يجب أن يُنظر إليه باعتباره عملاً تقنيًا أو هندسيًا فحسب، بل هو تجسيد لرؤية مصرية معاصرة تُدرك أهمية الماضي في تشكيل المستقبل. وفي ظل طوفان الإسمنت والزحام، يبقى لترميم نافورة الأزبكية دلالة خاصة؛ فهي ليست نافورة فقط، بل شهادة على عصور من الجمال والازدهار، وخطوة مهمة في مسيرة إعادة الاعتبار للقاهرة الخديوية، المدينة التي كانت يومًا حلمًا حضاريًا على ضفاف النيل.