نظرية صناعة الفوضى، وبخاصة فى منطقة الشرق الأوسط ليست بالأمر الجديد، بل كانت دائمًا واحدة من الأدوات التى سعت القوى الاستعمارية القديمة والحديثة إلى توظيفها لحماية مصالحها، واستهداف القوى الوطنية التى تراها تلك الكيانات الاستعمارية دائمًا خطرًا على نفوذها. منذ عدة أشهر جمعنى لقاء مع أحد المسئولين المطلعين على دقائق ما يجرى فى قطاع غزة. أفاض الرجل فى تحليله للوضع فى القطاع الذى يواجه حرب إبادة للبشر والحجر على حد سواء، لكن أكثر ما لفتنى فى حديثه كانت إشارته لما أسماه «سيناريو الفوضى» الذى اعتبره أحد الأهداف الإسرائيلية فى القطاع. استند الرجل إلى معلومات دقيقة، من بينها أن القصف الإسرائيلى تجنب على مدار مراحل العدوان استهداف منازل قياديين بارزين فى تنظيمات إرهابية داخل القطاع، رغم أن تلك المنازل كانت معروفة بدقة لقوات الاحتلال، فضلًا عن أن عصابات إجرامية حظيت رغم الحرب بحرية التحرك فى أمان داخل القطاع الذى ترصد فيه طائرات الاحتلال ومسيراته كل خطوة. شعرتُ وقتها أن هذا السيناريو من قبيل الحذر المبالغ فيه، لكن الأيام أثبتت لاحقًا أن ما حذر منه الرجل العليم ببواطن ما يجرى فى الأراضى الفلسطينية كان يتم الترتيب له بخبث وبدأب. وعندما أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو عن الاستعانة ببعض العصابات داخل القطاع، ولم ينكر إمدادها بالسلاح، أيقنت أن «سيناريو الفوضى» دائمًا هو هدف إسرائيلى، وأن تنفيذه لا يقتصر فقط على الأراضى الفلسطينية، بل يمثل الشرق الأوسط برمته مسرحًا لصناعة تلك الفوضى والاستثمار فى تداعياتها الكارثية. ■■■ ونظرية صناعة الفوضى، وبخاصة فى منطقة الشرق الأوسط ليست بالأمر الجديد، بل كانت دائمًا واحدة من الأدوات التى سعت القوى الاستعمارية القديمة والحديثة إلى توظيفها لحماية مصالحها، واستهداف القوى الوطنية التى تراها تلك الكيانات الاستعمارية دائمًا خطرًا على نفوذها. وليس بجديد أن أحد تجليات صناعة الفوضى فى منطقتنا تزامن مع الصعود الإمبراطورى للولايات المتحدة، ووصل أوجه مع جرح كبرياء تلك الإمبراطورية الأمريكية بهجمات 11 سبتمبر 2001، فقد رأت دوائر فكرية وسياسية غربية وأمريكية فى المقام الأول، أن منطقة الشرق الأوسط باتت عبئًا استراتيجيًا على الميزانية الأمريكية، وأن حماية المصالح الغربية فيها يستوجب مجموعة من الإجراءات التى دخلت حيز التنفيذ بدقة وصبر. أول تلك الإجراءات كان محاولة تفكيك دول المنطقة وإعادة تركيبها على أسس طائفية أو مذهبية، بما يضمن تناحرًا دائمًا بين تلك الكيانات الجديدة، ويترافق مع ذلك محاولات تفكيك الجيوش الوطنية القادرة على حماية الوحدة الوطنية والأمن القومى لدول المنطقة بمفهومها الواسع، وبخاصة الجيوش التى لديها خبرة قتالية سابقة. وبالتزامن، يتم تعزيز قدرة إسرائيل الأمنية والعسكرية بحيث تبقى قوة إقليمية مهيمنة، لا تستطيع الكيانات التى جرى تفكيكها أن تحافظ على أمنها إلا من خلال علاقتها مع تل أبيب، فضلًا عن تبعية كاملة لدائرة المصالح الغربيةوالأمريكية بالأساس، وهو الأمر الذى يمكّن واشنطن باعتبارها القوة العالمية العظمى والقطب الأوحد من تحقيق أكبر قدر من المصالح بأقل تكلفة. ■■■ هذا السيناريو دخل حيز التنفيذ منذ عام 2005، وتسارعت وتيرته منذ 2011، وحققت إسرائيل بالفعل مكاسب استراتيجية كبيرة من دخول العديد من دول المنطقة فى أتون الفوضى الداخلية، الأمر الذى أدى إلى حالة من الفراغ سعت مشاريع سياسية غير عربية لملئها، وكانت حقبة ما يسمى ب«الربيع العربى» هى ذروة صناعة الفوضى الإقليمية، وهى فى الوقت ذاته باعتراف العديد من قادتها ومفكريها الاستراتيجيين «الأكثر أمنًا وازدهارًا» بالنسبة لإسرائيل. لكن أمرًا واحدًا ربما لم يكن يُشعر حكام تل أبيب بالارتياح، ألا وهو الرغبة الأمريكية المتعاظمة فى الانسحاب تدريجيًا من المنطقة لصالح التركيز على جبهة الصين ومنطقة الإندو باسيفيك التى وضعتها مراكز الفكر والدراسات الأمريكية على قمة الأولويات الاستراتيجية والأحق بتوجيه موارد القوة العسكرية والمالية إليها. تدرك إسرائيل أكثر من أى طرف آخر أن القوة الأمريكية وحضور تلك القوة فى منطقة الشرق الأوسط هى الركن الأهم فى منظومة الردع الإسرائيلى، ليس فقط باعتبار الولاياتالمتحدة الراعى الأول لدولة الاحتلال، والممول لها بالمال والعتاد والغطاء الدبلوماسى، لكن باعتبار حضور القوة الأمريكية فى حد ذاته يمثل ورقة ضغط على القوى المناوئة لتل أبيب، ويجعل الجميع يعيد حساباته مرات عدة قبل اتخاذ أى إجراء من شأنه المساس بالدولة الوظيفية الأهم للمصالح الأمريكية فى العالم. لم تسع إسرائيل يومًا إلى أن تكون جزءًا من المنظومة الإقليمية لإدراكها التباينات القائمة بينها وبين الدول العربية، وبسبب طبيعة نشأتها وتأثير عقود من الصراع المتواصل والمستمر فى المنطقة، لذلك استهدفت تفكيك ذلك السياق الإقليمى واختلاق نظام يناسب مصالحها، ويغرى دول المنطقة على الانضمام إليها بدلًا من أن تنضم هى إليهم! ومن هذا المنطلق سعى الإسرائيليون إلى الاستفادة من تداعيات سيناريو الفوضى الإقليمية والحفاظ عليه لأطول فترة ممكنة، لكنهم فى الوقت ذاته سعوا إلى إقناع حلفائهم الأمريكيين بضرورة البقاء فى المنطقة، وتصدير فكرة أن هناك قوى لا تزال تمثل خطرًا على أمن ومستقبل إسرائيل. وجرى تضخيم خطر تلك القوى وفى مقدمتها الخطر الإيرانى وبرنامجه النووى، الذى كان نتنياهو حريصًا على استعراض تقدمه فى كل مناسبة متاحة، ويعرض صورًا منذ أكثر من عقد لوصول القنبلة الإيرانية إلى عتبة الاكتمال، وهو ما أثبتت الأيام زيفه وكذبه، تمامًا كأكاذيب البرنامج النووى العراقى، الذى جرى ضرب العراق وغزوه وتدمير جيشه عام 2003 استنادًا لتلك الأكاذيب. ■■■ فشلت إسرائيل فى تغيير أولويات السياسة الأمريكية، لكنها فى أعقاب 7 أكتوبر 2023 استطاعت أن تقنع قادة البيت الأبيض وصانعى السياسات فى واشنطن بأنها تواجه خطرًا وجوديًا، ومن ثم استطاعت أن تعيد الولاياتالمتحدة بكل حضورها الإمبراطورى إلى المنطقة، مستفيدة من رغبة الإدارة الأمريكية الجديدة فى تحويل النفوذ السياسى والعسكرى إلى مكاسب مالية. وتروج دوائر إسرائيلية نافذة إلى أن ثمة مصلحتين استراتيجيتين لحكومة نتنياهو استغلالًا لزخم الدعم الغربى المطلق لإسرائيل فى مرحلة ما بعد 7 أكتوبر، وهما مشروع التهجير وتصفية القضية الفلسطينية مرة واحدة وإلى الأبد، والثانى ضرب إيران. وقد سعت حكومة التطرف اليمينية فى تل أبيب ولا تزال تسعى لتحقيق الهدف الأول بكل ما أوتيت من أدوات، ولولا الموقف المصرى الحاسم والتحرك العقلانى والحكيم لاستطاعت حكومة الاحتلال العنصرية تحقيق هدفها. أما الهدف الثانى فقد حققته إسرائيل بالفعل، ووجهت ضربة قاسية، حتى وإن لم تكن قاصمة، للبرنامج النووى الإيراني، فضلا عن تحجيم برنامجها الصاروخي، وقبلها نجحت فى تقليم أظافر إيران الإقليمية عبر ضرب قدرات العديد من وكلائها وحلفائها فى المنطقة، وهو ما تراه يحقق مكاسب استراتيجية سعت إليها على مدى سنوات طويلة، ولم يكن من السهل تحقيقها لولا حالة الدعم المطلق التى تنعم بها من جانب الإدارة الأمريكية. بل إن تلك الضربة لإيران أعادت ترميم تحالف إسرائيل مع بعض القوى الغربية مثل بريطانيا وفرنسا، اللتين سارعتا إلى إعلان دعمهما لتل أبيب فى حالة تعرضها لرد إيرانى مؤلم، رغم أن نفس الدول كانت قبلها بأيام معدودة تنتقد السياسات الإسرائيلية، وتوجه انتقادات حادة لهمجية هجماتها على قطاع غزة ومماطلتها فى التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار. ■■■ وعندما نتعمق فى فهم وتحليل ملامح صناعة الفوضى الإقليمية التى تخدم المصالح الإسرائيلية فى المقام الأول، لا يمكن أن نتجاهل اعتماد تلك الفوضى على أدوات داخل دول المنطقة جرى تاريخيًا توظيفها من جانب دول الاستعمار القديم لضرب الحركات الوطنية والقومية على مدى عقود فى العديد من الأقطار العربية، وإجهاض مساعى الاستقلال الوطني، سواء بمعناه المباشر أى استقلال الدولة، أو بمعناه الشامل أى بتعزيز استقلالية القرار الوطنى وارتباطه بالمصلحة الوطنية دون غيرها. وأخطر وأخبث تلك الأدوات كان مشروع «التأسلم السياسي»، والذى كان منذ عام 1928 (تاريخ تأسيس جماعة الإخوان الإرهابية) خنجرًا فى خاصرة المشروعات الوطنية والقومية العربية، و«حصان طروادة» تستخدمه قوى الاستعمار القديم والجديد لإشاعة الانقسام والتفكك داخل المجتمعات العربية، ومن ثم تتمكن من إضعاف وحدة وتماسك تلك المجتمعات وبالتالى التدخل فى شئونها وتحقيق المصالح التى تبتغيها تلك القوى الاستعمارية. اصطنعت تيارات «التأسلم السياسي» السياسى عداءً زائفًا مع المصالح الأمريكية والإسرائيلية فى المنطقة، لكن عندما نغوص فى عمق ما حققته تلك التيارات المعادية للفكرة الوطنية، والقائمة على أفكار التمييز الدينى والطائفي، نجدها خدمت وبامتياز أهداف صناعة الفوضى الإقليمية، فأشعلت الصراعات والحروب الأهلية الداخلية فى العديد من دول المنطقة العربية، وليس ما جرى فى سوريا والسودان واليمن، وقبلها فى تونس ومصر وليبيا والعراق والجزائر سوى أمثلة يمكن أن نستفيض فيها فى مقام آخر. هذا فضلًا عما حققه مشروع «التأسلم السياسي» من انقسام فلسطينى داخلى كان ولا يزال مصلحة وخدمة استراتيجية لا تقدر بثمن لدولة الاحتلال، التى سعى رئيس وزرائها الحالى إلى إبقاء تلك الحالة من تفكك الصف الفلسطينى لأطول فترة ممكنة وبكل السبل. كان دائمًا مشروع «التأسلم السياسي» خصما من رصيد القوة العربية، وإضافة لرصيد الفوضى فى الإقليم وخدمة لمن يقفون وراءه من المستفيدين من حالة الانقسام الداخلى والاحتراب الأهلى. ولعل مساعى أذرع تيارات «التأسلم السياسى» لاستهداف الدولة العربية الأهم سابقًا وحاليًا ومستقبلًا المساندة للقضية الفلسطينية وهى مصر، يُعد صورة أخرى من صور صناعة الفوضى فى الإقليم، وخدمة مصالح من يقفون خلفه. فهل يُعقل أن يسعى بعض أذرع «التأسلم السياسى» إلى تسيير قافلة تزعم دعم القضية الفلسطينية ثم نجدها تسعى إلى إثارة البلبلة والالتفاف على الإجراءات الدبلوماسية والأمنية التى وضعتها القاهرة لتنظيم زيارة المنطقة الحدودية عند معبر رفح، ومحاولة تصدير أزمة إلى الدولة التى تحملت ولا تزال العبء الأكبر لدعم الأشقاء فى قطاع غزة. ألم يكن من باب أولى أن تتجه تلك القافلة كما اتجهت قبلها السفينة «مادلين» مباشرة إلى محاولة كسر الحصار الإسرائيلى عن القطاع وتسليط الضوء على ما تفرضه قوات الاحتلال من إجراءات مخالفة للقانون الدولى، بدلًا من افتعال أزمة مع مصر واختلاق القافلة - مشبوهة التنظيم والهدف- ذريعة للهجوم على الدولة والشعب الذى يقتطع من قوته راضيًا سعيدًا لكى يبقى أشقاؤه فى غزة على قيد الحياة صامدون على أرضهم قادرون على مواجهة عدوهم. ستبقى الفوضى بكل أوجهها وسيلة الراغبين فى الهيمنة على الإقليم، وسلاحهم الأهم لاختراق أوطاننا وإضعافها ليحققوا ما أرادوه، وسيبقى الوعى الشعبى حصنًا حصينًا للمواجهة، والتكاتف العربى بديلًا لا غنى عنه للتصدى لكل محاولات التفكيك والانقسام. حمى الله أوطاننا، وألهم قائدنا ورئيسنا الرئيس عبد الفتاح السيسى البصيرة والحكمة والقدرة على التصدى لتلك المخططات الخبيثة فهو نموذج للزعامة الحقيقية والقيادة الجادة التى تضع نصب عينيها أمن الوطن وسلامة الشعب، فالقيادة الحقيقية هى التى لا تقامر بسلامة الأوطان ولا تغامر بمقدرات الشعوب، وحفظ الله جيشنا ليبقى درعًا وسيفًا وقوة رشيدة تحمى السلم وتصون أمننا القومى فى مواجهة المخاطر والتهديدات.