في قلب الجدل الدائر حول ميزان القوى في الشرق الأوسط، يبرز سؤال محوري: ما هو الحجم الحقيقي للقدرة الدفاعية الإيرانية؟ إن الادعاء الشائع بأن إيران ضعيفة دفاعياً هو ادعاء صحيح إلى حد كبير إذا حصرنا النقاش في القوة الجوية التقليدية وشبكات الدفاع الجوي المتكاملة. لكن هذا التبسيط يتجاهل الحقيقة الاستراتيجية الأهم: لقد حولت إيران نقاط ضعفها التقليدية إلى دافع لتطوير قوة ردع غير متماثلة، تعتمد بشكل أساسي على ترسانتها الضخمة من الصواريخ الباليستية والطائرات بدون طيار. إن الوضع الدفاعي الإيراني ليس مجرد قوة أو ضعف، بل هو نسيج معقد من الثغرات الواضحة ونقاط القوة المتعمدة، وهو نتاج مباشر لعقود من العزلة الجيوسياسية والعقوبات الدولية. سلاح الجو: أسطول من الماضي في مواجهة تحديات الحاضر عند النظر إلى القوات الجوية الإيرانية (IRIAF)، نجد أنفسنا أمام ما يشبه متحفاً للطيران العسكري. يتألف قلب الأسطول المقاتل من طائرات أمريكية الصنع تعود إلى حقبة ما قبل ثورة 1979، مثل طائرات "F-14 Tomcat" و"F-4 Phantom". هذه الطائرات، رغم الجهود الإيرانية لإبقائها في الخدمة عبر "ثقافة التفكيك من أجل البقاء" (cannibalization)، تظل متقادمة تكنولوجياً وتواجه نقصاً حاداً في قطع الغيار والصيانة. وفي محاولة لسد هذه الفجوة، سعت طهران إلى تحديث قواتها. ويعد الحصول على مقاتلات "Su-35" الروسية المتقدمة، وإدخال طائرات التدريب "Yak-130"، خطوة ملحوظة. ومع ذلك، حتى لو استلمت إيران كامل العدد المتوقع من طائرات "Su-35"، فإنها ستظل تمثل مكوناً نخبوياً ومحدود العدد، يصعب دمجه مع خليط غير متجانس من الأنظمة القديمة. هذا العدد لا يقارن بأساطيل الخصوم الحديثة والشبكية، مثل إسرائيل التي تشغل أعداداً كبيرة من طائرات "F-35" و"F-15/16" المتطورة. لذا، فإن أي محاولة تحديث تظل أقرب إلى ترقيع محدود منها إلى تغيير جذري في ميزان القوى الجوي. كما أن كفاءة الطيارين أنفسهم، الذين يواجهون قيوداً على ساعات الطيران والتدريب المتقدم، تظل عاملاً مقيداً. شبكة الدفاع الجوي: مزيج غير متجانس على الورق، تبدو أنظمة الدفاع الجوي الإيرانية مثيرة للإعجاب. تتباهى طهران بأنظمة محلية مثل "باور-373" بمدى اشتباك يصل إلى 300 كم، و"خرداد-15" القادر على كشف الأهداف الشبحية، إلى جانب امتلاكها لنظام "S-300" الروسي. لكن نقطة الضعف القاتلة لا تكمن في الأنظمة الفردية، بل في غياب التكامل. تشير الأدلة إلى أن هذه الأنظمة المتنوعة من مصادر مختلفة (إيرانية، روسية، وسوفيتية قديمة) لا تتواصل مع بعضها البعض بفعالية. بدلاً من شبكة دفاع جوي وطنية متكاملة تخلق صورة موحدة للمجال الجوي، تعمل هذه الأنظمة كجزر منعزلة. هذا التجزؤ يخلق فجوات وثغرات يمكن لخصم متطور استغلالها بسهولة عبر الحرب الإلكترونية وهجمات الإشباع بالطائرات الشبحية والمسيرات. وقد كشفت الضربات الإسرائيلية الأخيرة عن هذه الحقيقة، حيث تمكنت من تحييد الدفاعات حول مواقع حساسة مثل نطنز من خلال استغلال هذا النقص في التكامل والاعتماد على تكتيكات هجينة تجمع بين القوة الجوية والعمليات الاستخباراتية على الأرض. الردع غير المتماثل: سيف إيران الحقيقي إدراكاً منها لضعفها التقليدي، استثمرت إيران بشكل مكثف في قدرات هجومية غير متماثلة أصبحت تشكل جوهر استراتيجيتها الدفاعية. 1 - الصواريخ الباليستية: هي أداة الردع والرد الانتقامي الرئيسية. تمتلك إيران ترسانة متنوعة تشمل صواريخ "خيبر شكن" و"فتاح" التي تدعي أنها قادرة على المناورة وتجاوز سرعة الصوت، مما يجعل اعتراضها تحدياً كبيراً. هذه الصواريخ، التي يتم إطلاقها من منشآت محصنة تحت الأرض ("مدن الصواريخ")، تهدف إلى ضمان قدرة إيران على إلحاق أضرار باهظة بأي معتدٍ، وبالتالي ردعه عن شن هجوم في المقام الأول. 2 - الطائرات بدون طيار: أصبح برنامج المسيرات الإيراني، بسلسلة "شاهد" و"مهاجر"، أداة منخفضة التكلفة وعالية التأثير. لقد أثبتت فعاليتها في إرباك الدفاعات الجوية عبر تكتيكات "الأسراب" والإشباع، كما رأينا في أوكرانيا. هذه الطائرات ليست مجرد سلاح، بل أداة سياسة خارجية تسمح لإيران بإبراز نفوذها وتسليح وكلائها الإقليميين. من منظور استراتيجي، فإن هذه القدرات الهجومية لا تساهم بشكل مباشر في الدفاع عن المجال الجوي الإيراني، لكنها تشكل "دفاعاً عبر الردع بالعقاب"، مما يعقد حسابات أي خصم بشكل كبير. الخلاصة: توازن القوى الهش إن تقييم القدرات الدفاعية الإيرانية يقودنا إلى نتيجة واضحة: إيران تمتلك درعاً تقليدياً هشاً، لكنها تحمل سيفاً غير متماثل حاداً. إنها عرضة لحملات جوية متطورة، لكنها قادرة في المقابل على فرض تكاليف باهظة عبر هجمات صاروخية مدمرة. الفجوة التكنولوجية مع خصوم مثل إسرائيل ليست مجرد فجوة في المعدات، بل هي فجوة نظامية في مجالات القيادة والسيطرة والحرب الإلكترونية والتكامل الشبكي، وهي فجوة من المرجح أن تتسع. هذا الواقع يخلق بيئة أمنية إقليمية خطيرة وغير مستقرة. فالضعف التقليدي قد يدفع طهران إلى التمسك أكثر ببرامجها غير المتماثلة وتسريع وتيرتها، بينما قد يغري هذا الضعف خصومها بالقيام بضربات استباقية. إن الصراع الإيراني الإسرائيلي لم يعد مجرد مواجهة تقليدية، بل أصبح نموذجاً للحرب الهجينة الحديثة، حيث تتداخل الضربات الجوية مع العمليات السرية والحرب السيبرانية وحملات المعلومات، مما يرفع من مخاطر سوء التقدير والتصعيد إلى مستويات غير مسبوقة.