فى زمنٍ بات فيه الزيف بديلاً عن الحقيقة، والكذب متوّجًا بتيجان الإعجاب، بينما تُجلَد الحقيقة عاريةً فى زوايا الوعى المظلمة، يطرح السؤال نفسه: هل بات العالم عاجزًا عن تحمل الحقيقة؟ أم فقد القدرة على مواجهتها؟.. إنها الحكاية التى تكررت ألف مرة، منذ ارتدى الكذب ثوب الحقيقة الأنيق، وأدار الناس وجوههم عن الحقيقة وهى تقف أمامهم عارية، لا تغلفها الزينة ولا تخدعهم بالألوان، الأسطورة التى شاعت فى أوروبا فى القرن التاسع عشر، لم تكتفِ بطرح الأسئلة، بل أجابت عنها بمرارة لم يلتفت إليها العالم! تحكى الأسطورة أن الحقيقة والكذب التقيا فى صباح مشرق، قال الكذب: «اليوم جميل»، فرفعت الحقيقة عينيها للسماء، وصدّقته، ثم دعاها إلى ماء البئر، فلامسته وجدته عذبًا، تجردا من ملابسهما ونزلا معًا، لكن الكذب خرج وسرق ثياب الحقيقة وهرب، خرجت الحقيقة عارية، ثائرة، تطارده، وحين رأى الناس الحقيقة عارية أزاحوا وجوههم عنها، بينما رحبوا بالكذب المتزين بملابسها، فخجلت الحقيقة وعادت إلى البئر، ولم تخرج منه منذ ذلك اليوم، بينما ظل الكذب يجوب الدنيا متنكرًا فى ثيابها، يحصد التصفيق والإعجاب. هذه الأسطورة تحولت إلى لوحة، رسمها الفنان الفرنسى جان ليون جيروم عام 1896، بعنوان «الحقيقة العارية»، جسد فيها الحقيقة خارجة من البئر عارية، غاضبة، تمسك سوطًا فى يدها، لتوقظ به العالم الذى حكم عليها، لمجرد أنها لم تخفِ نفسها خلف أكذوبة، لم تكن اللوحة تصويرًا بصريًا لأسطورة فحسب، بل بيانًا فلسفيًا يجسد صدمة المجتمع أمام الحقيقة حين تتجرد من الزيف. إن الحقيقة تحتاج إلى رجلين، واحد لينطق بها والآخر ليفهمها، هكذا قال جبران خليل جبران، وبين همس سطور نصوصه العميقة، من «النبي» إلى «الأجنحة المتكسرة»، نجد إدانة واضحة لمجتمعات تمجد الزيف حين يكون أنيقًا، وتكره الحقيقة إن جاءت عارية، ولأن جبران لم يكن كاتبًا وشاعرًا ورسامًا فقط، بل كان ضميرًا إنسانيًا يضيء عتمة الروح، أدرك أن العالم لا يكره الكذب لأنه كذب، بل يكرهه حين يفشل فى تقليد الحقيقة. إننا نعيش فى عصر صارت فيه الحقيقة مطاردة ومتهمة، تغيّر شكل البئر، وصار رقميًا افتراضيًا، لكنه ما زال عميقًا ومظلمًا، تختبئ فيه الحقيقة، فلم يعد العالم يملك شجاعة النظر فى وجهها، دون أن يغمض عينيه، لأنه لم يعُد يحتمل أن يرى نفسه فيها.