تتسارع الأحداث ب وتيرة أشبه ب كابوس سياسي وعسكري يخيّم على منطقة الشرق الأوسط كلها .. ورغم أن الغارات الإسرائيلية الأخيرة على الأراضي الإيرانية لم تكن مفاجأة في مضمونها .. لكنها كانت مفاجئة في توقيتها وحجمها ونوعيتها .. غارات تحمل رسالة مدروسة هدفها توجية " ضربة موجعة .. دون إشعال حرب شاملة " .. وفي المقابل كانت العين على طهران تترقب الرد الذي جاء على هيئة طلعات مسيّرة وصواريخ دقيقة .. بنفس المنطق " عض الأصابع .. دون كسرها " . .. و .. و أحسب هنا أن المعادلة باتت واضحة وضوح الشمس .. إسرائيل لا تريد إسقاط النظام الإيراني .. ولا تريد الدفع ب حرب شاملة تخرج عن السيطرة .. وإنما تريد ضربة نوعية موجعة تشلّ أعصاب المؤسسة العسكرية الإيرانية .. ثم .. ثم توجّه إنذاراً صارخاً ل قيادات بعينها.. خاصة أولئك الذين لهم علاقة مباشرة ببرامج التسليح والصواريخ والطاقة النووية . لذا وفي تقديري المتواضع نحن لسنا أمام حرب لكننا في الوقت ذاته لسنا أمام سلام .. إننا أمام " ضربة عقابية محسوبة " .. ومحاولة ل فرملة سريعة لأي مسار إيراني يتجه نحو خطوط حمراء تخشاها إسرائيل والولاياتالمتحدة معاً . ولعل الراصد ل الردود الإيرانية اليوم والأمس .. نجدها دائماً لا تخرج عن نفس القاموس .. طهران تعرف جيداً أن الدخول في مواجهة مفتوحة مع إسرائيل أو مع الولاياتالمتحدة .. هو نوع من الانتحار الاستراتيجي لأن الحقيقة العسكرية لا ترحم .. ف الجيش الإيراني رغم التسويق الإعلامي حوله .. إلا انه يعاني من ضعف هيكلي عميق ومتراكم جراء سنوات طويلة من العزلة الدولية .. والحصار التسليحي الذي يمتد منذ أكثر من 45 عاماً .. نعم إيران تملك جيشاً عقائدياً وتحالفات إقليمية قوية .. لكنها لا تملك سلاحاً جوياً متطوراً .. ولا أنظمة دفاع فعالة تواكب العصر . وهذا لا يعني أن إيران " صفر اليدين " .. إذ أنها تركز كل أوراقها في سلة واحدة وهي " سلاح الصواريخ الباليستية " .. ورغم أنه سلاح واحد لكنه سلاح فعّال وطويل المدى .. يصل مداه ل أكثر من 2000 كيلومتر .. ما يعني أنه قادر على الوصول إلى أعماق إسرائيل وقواعدها الحيوية .. بل وضرب كل نقطة نفط في الخليج العربي .. و .. و "هذا هو بيت القصيد". وبحسابات بسيطة فإن أي مواجهة شاملة مع إيران .. حتى ولو قُدر لها أن تنتهي ب إسقاط النظام أو تدمير البنية العسكرية .. ف إنها ستتم على ركام اقتصادي عالمي .. إيران في لحظة السقوط قادرة على إشعال الخليج .. وتدمير المنشآت النفطية من طهران إلى أبوظبي .. ومن البصرة إلى الظهران .. ما سيؤدي إلى شلل في إمدادات الطاقة العالمية .. ثم .. ثم إرتفاع جنوني في أسعار النفط .. ويدخل بعدها الاقتصاد العالمي في نوبة اختناق قد تكون مدمرة أكثر من الحروب ذاتها . من هنا .. يستطيع أي متابع ذكي لتطورات الاحداث إدراك حقيقة ما يجري خلف الكواليس .. فالولاياتالمتحدة رغم شراكتها الاستراتيجية العميقة مع إسرائيل .. لا تريد ولا تحتمل حرباً شاملة مع إيران .. وهذا ليس من باب العاطفة أو الخوف .. بل من منطلق " براجماتي " اقتصادي بحت .. لأن سقوط إيران يعني سقوط نصف إمدادات الطاقة .. وخروج عشرات الملايين من براميل النفط من السوق .. فضلًا عن احتمال انفجار العراق وسوريا ولبنان واليمن دفعة واحدة . لذا ف الواقع يقول إن هناك اتفاقاً ضمنياً بين واشنطنوطهران .. سواء جرى التصريح به أم لا .. إتفاق يقوم على قاعدة دقيقة وهي أن " إيران باقية " .. ولكنها تحت السيطرة أي أنها ممنوعة من التمدد العسكري النووي .. وممنوعة في الوقت نفسه من السقوط الكامل .. وهذا التوازن الرهيب هو ما يفسر محدودية الضربات .. وضبط النفس في الرد .. واحتفاظ كل الأطراف ب " خط للرجعة " . أما إسرائيل ف غرضها ليس ب خافياً علي أحد .. تل أبيب تريد رسم خارطة جديدة للمنطقة .. تضعها في مركز القيادة السياسية والعسكرية والاقتصادية .. والهدف عندها ليس فقط مجرد الردع .. بل الهدف فرض الهيبة .. وإرغام كل اللاعبين على التسليم ب قيادتها .. وهذه ليست مجرد طموحات سياسية .. بل جزء من مشروع أوسع .. طالما يتغنّى به المتطرفون في الفكر الصهيوني .. ألا وهو حلم " إسرائيل الكبرى " .. الممتدة من النيل إلى الفرات . لكن يبقي السؤال الذي يطرح نفسه دائماً .. ما الذي يمنع إسرائيل من تنفيذ هذا الحلم حتى النهاية ؟ .. و الجواب ببساطة هو : " مصر .. أم الدنيا .. الصخرة التي تتحطم عليها دائماً أطماع الغزاة " . ففي ظل هذا التصعيد الخانق .. تقف القاهرة كجدار صد استراتيجي .. لا ب صواريخ ولا ب طائرات فقط .. بل ب ثقل سياسي وجيش عقائدي وطني .. وتاريخ طويل يقول كلمته عند كل مفترق في الطرق .. فمهما علا صوت التطبيع .. ومهما حاولت إسرائيل أن تخلط الأوراق .. تبقى مصر هي الدولة الوحيدة القادرة على فرملة هذا المشروع الصهيوني .. وموازنة الكفة الإقليمية في وجه التفوق الإسرائيلي العسكري المؤقت . ولعل ما يدعم هذا الطرح هو موقف مصر الثابت من فكرة تفجير الإقليم .. وموقفها الوطني العروبي من حماية أمن الخليج .. ووقوفها حجر عثرة ل منع انزلاق إيران نحو مشروعها الثوري داخل الجغرافيا العربية .. لكن في الوقت نفسه تعرف مصر أن ضرب إيران حتى الفناء لن يكون نصراً للعرب .. بل بداية ل انهيار اقتصادي إقليمي غير مسبوق . وعلى جانب آخر .. هناك وجه آخر للصورة لا يمكن تجاهله .. وهو دور الحلفاء الدوليين .. "روسياوالصين" .. إذ نري موسكو غارقة في حربها الطويلة ضد أوكرانيا .. لكنها لن تسمح ب انهيار إيران لأنها أحد أبرز محاورها في مواجهة الغرب .. أما الصين المرتبطة ب اتفاقات استراتيجية مع طهران تري أن استقرار إيران هو جزء من استقرار طريق الحرير .. ومصالحها التجارية في آسيا والشرق الأوسط . كل هذه التوازنات تضع المنطقة على صفيح ساخن .. ف كل ضربة عسكرية محسوبة .. وكل طلعة جوية مدروسة .. وكل رد فعل مؤجل ب حساب دقيق للثمن والتكلفة .. والخطر الحقيقي هنا لا يكمن في الصواريخ .. بل في حسابات الخطأ في ظل هذا التوتر المتصاعد .. فقد تكفي شرارة واحدة ل صاروخ قد يخطئ هدفه .. أو قصف قد يسقط بسببه مدنيين .. أو عملية اغتيال خاطئة .. يكفي لأن تتحول اللعبة إلى حرب لا يريدها أحد .. حرب قد تندلع رغم أنف الجميع . لذا يمكن القول إن ما نشهده اليوم ليس مجرد مواجهة بين إسرائيل وإيران .. بل اختبار دقيق ل طريقة إدارة التوازنات الدولية .. واختبار آخر ل قدرة المنطقة على استيعاب الضغوط دون الانفجار .. إسرائيل لا تريد حرباً شاملة .. وإيران لا تتحمل تبعاتها .. وأمريكا ترفض اندلاعها .. ورغم هذا يبقي الخطر قائم .. وتظل الشرارة قريبة .. والرهان الحقيقي اليوم هو على قدرة العقلاء في كبح جماح هذا الجنون .. قبل أن تُفتح علينا أبواب الجحيم . فهل نحن أمام مرحلة من الضربات المحدودة المتكررة ؟ .. أم أننا نقترب من لحظة كسر العظام ؟ .. وأحسب أن الجواب هنا لا تملكه لا تل أبيب ولا طهران ولا حتي أمريكا .. بل تملكه شبكة معقدة من المصالح الإقليمية والدولية .. وشعوب لم تعد تتحمل مزيداً من الدماء والدمار .. وعلي الجميع أن يدرك أن إندلاع الحرب لا يحتاج إلا إلى غلطة واحدة تخرج ب الأمور خارج السيطرة .. عندئذ ستندلع نيران لا تبقي ولا تذر . اللهم سلم وألطف ب عبادك الضعفاء علي كوكب الارض. كاتب المقال : مدير تحرير بوابة أخبار اليوم