فى زمن تتلاطم فيه الأمواج الفكرية، وتتعالى الأصوات ما بين الغلو والتفريط، يبقى الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف، إماما للوعى والتنوير، ورمزًا أصيلاً لوسطية الدين وسماحته. الإمام الطيب حمل على عاتقه هموم الأمة، وجعل من الأزهر منصة حوار بين دعاة التجديد وأنصار الجمود، وسعى إلى نقطة التقاء بين الإيمان والإنسان، بين الدين والوطن، بين العقيدة والتعايش. أعرف الإمام عن قرب، وأتذكر جيدًا زيارتى له فى مكتبه منذ عامين، وكان غاضبًا من حملة إعلامية تستهدف شخصه، وقالها بوضوح: «هناك من يسعى لهدم المرجعيات»، وأقولها اليوم بوضوح: من كان يهاجم الإمام الطيب، يجهل قيمة الرجل الذى حافظ على ثوابت الأمة وجدد الخطاب دون أن يفرّط. أكدت له حينها تقديرى الكبير، وقلت له بلغته الصعيدية التى يحبها: «حجك علينا يا مولانا»، وأشهد أنه كان على حق فى غضبه، وسط موجات من التطرف الفكري، وتيارات تجنح بالدين بعيدًا عن جوهره. الإمام الطيب يرفع شأن الخطاب الدينى المعتدل باعتباره ركيزة من ركائز الأمن القومي، فى ظل الحرص على الهوية المصرية الجامعة، كبديل عن فوضى الدم، وأوهام الانتقام. مرت مصر بفترات عصيبة، كان من الممكن أن تنزلق فيها إلى الفوضى، لولا حكمة القيادة، ورجال مثل الإمام الطيب الذين آمنوا بأن الدين لا يكون أبدًا وقودًا للفتنة، بل هو جسر نحو المصالحة. نحتاج جهودا كبيرة لإزالة بقايا الغبار عن موروثات خاطئة، ونشر أفكار دينية ترسى معالم السلام الاجتماعى، بعد ان كان مخططا لمصر أن تدخل نفق الثأر وتصفية الحسابات والحرب الأهلية منذ أكثر من اثنى عشر عاما. ولو أريقت دماء الثأر والانتقام ما كانت لتجف حتى الآن، ولكن احتوتها العدالة التصالحية للدولة، تحت مظلة القضاء، فأحدثت مصالحة اجتماعية غير مسبوقة فى تاريخ الأمم، وساد مفهوم السلام المجتمعى تحت عباءة الهوية الوطنية المصرية. محاربة التطرف تبدأ من داخل العقول والنفوس، والخطاب الدينى أحد المفاتيح الجوهرية فى معركة الوعي، ونحن فى أمسّ الحاجة إلى ترسيخ القيم النبيلة التى قامت عليها الرسالات السماوية، وفى مقدمتها التسامح، والرحمة، وقبول الآخر. والرهان اليوم معقود على الإمام الأكبر شيخ الأزهر ورجال الدين المستنيرين، لاستكمال المهمة التاريخية فى تنقية الشريعة السمحة من شوائب الغلو والتشدد، وتقديم صورة الإسلام الحقيقية؛ دين العلم والعدل والمحبة. إنها معركة وعي، لا تقل خطورة عن معارك السلاح.. ومنابر المساجد ومناهج التعليم، ووسائل الإعلام، مطالبة بأن تتكاتف فى هذه المهمة، حتى تظل العقول حصينة، والقلوب عامرة والأوطان آمنة. الإمام الطيب لم يكن فقط شيخًا للأزهر، بل إمامًا للضمير الوطني، وصوتًا للحكمة حين خفتت الأصوات، ورايةً للتنوير فى وجه العتمة.